لتطهير النفس من العنف، يوصي القرآن بكظم الغيظ، العفو، ذكر الله، الإحسان، والحلم. هذه الممارسات تساعد على تزكية النفس وتحقيق السلام الداخلي.
تطهير النفس الباطنية من العنف هو مسار روحي عميق يقدم القرآن الكريم إرشادات واضحة جدًا له. العنف، سواء كان في الكلام، أو الفعل، أو حتى في الأفكار الكامنة، ينبع من أمراض قلبية وروحية يدعو القرآن إلى شفائها. هذه التزكية تتجاوز مجرد السيطرة على السلوك الخارجي؛ إنها تتعلق بالتحول الداخلي وتزكية النفس، أي إزالة الصدأ من القلب والروح حتى يتجلى فيها النور الإلهي، ويصل الإنسان إلى سلام دائم. يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى معرفة الذات ومجاهدة الميول النفسية السلبية ليتحرر من عبودية الأهواء ويبلغ الحرية الحقيقية. يتطلب هذا المسار جهدًا صادقًا وتأملًا والتزامًا بالنمو الروحي، مع الإدراك بأن القوة الحقيقية لا تكمن في العدوان بل في ضبط النفس والرحمة. الخطوة الأولى لتطهير الداخل من العنف هي معرفة جذوره في نفس الإنسان. يشير القرآن مرارًا إلى حالات النفس المختلفة؛ من النفس الأمارة (التي تدعو إلى السوء) إلى النفس اللوامة (التي تلوم الإنسان على ذنوبه) وفي النهاية النفس المطمئنة (التي بلغت السكينة ورضيت بقضاء الله). ينبع العنف غالبًا من النفس الأمارة، عندما يكون الإنسان تحت تأثير الغضب الجامح، أو الحسد المدمر، أو الكبر الغرور، أو حب الدنيا والماديات المفرط. هذه حُجب تظلم القلب وتمنع إشراق نور الرحمة والمودة. يأمر القرآن المؤمنين بتزكية أنفسهم وتطهيرها من هذه الأمراض القلبية؛ لأن الفلاح لا يصيب إلا من أتى بقلب سليم وعاد إلى ربه بروح نقية ومليئة بالسكينة. تتطلب هذه التزكية التأمل، ومراجعة الذات، والاعتراف بالضعف، والسعي المستمر نحو التحسين. من أبرز التعاليم القرآنية لمكافحة العنف الداخلي مفهوم «الصبر» و«كظم الغيظ» (حبس الغضب). في سورة آل عمران، الآية 134، يعدد الله تعالى صفات المتقين: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين). هذه الآية تشير مباشرة إلى استئصال العنف الداخلي. كظم الغيظ لا يعني إنكاره، بل يعني التحكم فيه وإدارته حتى لا يتحول إلى فعل عنيف أو كلام مؤذٍ. هذا يتطلب تدريبًا مستمرًا، ووعيًا ذاتيًا، ومجاهدة للنفس. عندما يكظم الإنسان غيظه، فإنه يمنع نفسه من الانجراف نحو رد فعل يؤدي إلى الندم والكدر. هذا الفعل يطهر القلب من الحقد والمرارة والطاقات السلبية، ويفتح المجال للسكينة، والمودة، والمحبة الإلهية. هذه الصفة علامة على النضج الروحي والقوة الداخلية التي تحرر الإنسان من عبودية المشاعر، وتمكنه من الاستجابة بحكمة بدلاً من الاندفاع. بالإضافة إلى كظم الغيظ، فإن «العفو» و«الصفح» (المسامحة والتغاضي الكريم) من الأركان الأساسية لتطهير الداخل أيضًا. في نفس الآية 134 من آل عمران، يشار إلى «والعافين عن الناس». التغاضي عن أخطاء الآخرين لا يمنح الطرف الآخر فرصة للتصحيح والتعويض فحسب، بل الأهم من ذلك، أنه يحرر قلب الإنسان من العبء الثقيل للحقد والكراهية والرغبة في الانتقام. يقول القرآن بوضوح: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» (وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟) (النور، الآية 22). تبين هذه الآية أن عفونا عن الآخرين هو بحد ذاته سبيل لنيل المغفرة الإلهية، وما أطهر من قلب تحرر من الحقد وتوق إلى رحمة الله؟ العفو والصفح يمنحان الإنسان القدرة على الخروج من دائرة رد العنف بالعنف وقطع سلسلته. هذا النوع من الصفح هو علامة على سمو الروح والشجاعة الأخلاقية، يحرر الفرد من أسر الأفكار السلبية ويمكّنه من العيش بسلام أكبر ورحمة. «ذكر الله» و«التقوى» يلعبان دورًا محوريًا في هذه العملية أيضًا. فذكر الله الدائم والتقوى الإلهية (خشية الله التي تؤدي إلى الامتناع عن الذنوب والالتزام بأوامره) درع قوي ضد المحفزات العنيفة. عندما يتذكر الإنسان أن الله مطلع على أفعاله وحتى أفكاره، وأنه سيحاسب يومًا ما، تقل الدوافع الداخلية للانخراط في العنف أو حتى التفكير فيه. يقول القرآن: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد، الآية 28). فسكينة القلب الناتجة عن الذكر لا تترك مجالًا لنمو العنف. تساعد التقوى الإنسان على مقاومة وساوس النفس والشيطان التي غالبًا ما تؤدي إلى العنف، وبدلاً من ذلك يختار طريق السلام والخير والمداراة. هذا التذكير المستمر يدفع الإنسان نحو الفضائل الأخلاقية والابتعاد عن الرذائل، مما يعزز إحساسًا بالانسجام الداخلي والخضوع للإرادة الإلهية. «الإحسان» (العمل الطيب والإحسان إلى الآخرين) هو أيضًا وسيلة فعالة لدفع العنف الداخلي وتحويله إلى سلوك بناء. يعلمنا القرآن أن نرد السيئة بالحسنة: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت، الآية 34). هذا النهج لا يحسن العلاقات الخارجية فحسب، بل يغير الداخل أيضًا. عندما يرد الإنسان السيئة بالحسنة، فإنه ينزل من مستوى العنف ويرتفع إلى مستوى أعلى من الروحانية والأخلاق. هذا الفعل يزيد من قوة الإنسان الداخلية وقدرته على السيطرة على النفس الأمارة، ويستأصل الحقد والعداوة من القلب، ويستبدلهما باللطف والتفاهم. إنه يحول الصراع المحتمل إلى فرصة للتواصل والمصالحة. أخيرًا، إن تنمية «الحلم» و«البصيرة» من الطرق القرآنية الأخرى. الحلم يعني الصبر والاتزان في مواجهة الجهل أو الإساءة من الآخرين. في سورة الفرقان، الآية 63، يصف الله عباد الرحمن: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا). تقدم هذه الآية صورة جميلة لشخص تطهر داخله من العنف. فهو لا يغضب ولا يلجأ إلى العنف اللفظي أو الجسدي، بل حتى عندما يستفزه الجاهلون، يرد بالسلام والسكينة. هذه الحالة هي أقصى درجات السيطرة على النفس والتحرر من قيود العنف الداخلي، حيث بلغ الفرد درجة من تزكية النفس تجعل سلوكيات الآخرين السلبية لا تخرجه عن مسار الهدوء والوقار. هذا المسار يتطلب الثبات والدعاء المستمر للهداية وتطهير القلب. بالالتزام بهذه التعاليم، يمكن للمرء أن يحقق السلام الداخلي ويطهر قلبه من كل عنف وحقد، وهذا لا يساهم فقط في رفاهية الفرد الروحية، بل يساعد أيضًا في بناء مجتمع أكثر سلمية. (حوالي 850 كلمة)
يُروى في روضة سعدي أن أحد الحكماء أوصى ابنه قائلاً: «يا بني، إن أردت العيش في راحة دائمة، فاكظم غيظك وتعامل مع الناس بالمداراة». وذات يوم، شتم رجل فاضلاً، فاختار الفاضل الصمت. كلما زاد الرجل في شتمه، ازداد الفاضل هدوءًا. في النهاية، ندم الرجل واعتذر. فقال الفاضل: «أردت أن تؤذيني بكلامك، ولكنني طهّرت داخلي من الحقد بصمتي. فإن كل غضب يكظم يتحول إلى صدق وصفاء، وكل حقد يغفر هو خير بحد ذاته». هذه القصة توضح أن تطهير النفس من العنف يتحقق بضبط النفس والعفو، ويجلب السكينة الحقيقية.