نشعر بمحبة الله من خلال التأمل في خلقه، والعمل بهدايته، والشكر، والعبادات، وخدمة الخلق، والصبر في الشدائد. هذه سبل إدراك حضوره اللامتناهي وعطفه.
كيف يمكننا أن نشعر بمحبة الله اللامتناهية في حياتنا؟ هذا سؤال عميق شغل قلوب الكثيرين على مر العصور. الإجابة، المتجذرة بعمق في تعاليم القرآن الكريم، ليست مجرد شعور عابر، بل هي تجربة عميقة تتجلى من خلال المعرفة والعمل الصالح والتأمل الروحي المستمر. إن القرآن الكريم، بصفته الوحي الإلهي، هو دليلنا الأسمى في هذه الرحلة، حيث يوضح بجلاء كيف يغمر الله سبحانه وتعالى خلقه بمحبته العظيمة وكيف يمكننا، بدورنا، أن ندرك هذه المحبة ونفهمها ونشعر بها بعمق في كل كياننا. محبة الله، على عكس المحبة البشرية التي قد تكون محدودة، مشروطة، ومتقلبة، هي محبة مطلقة، غير مشروطة، شاملة، وأبدية. كما ورد في أول سورة من القرآن الكريم، سورة الفاتحة، حيث يُعرّف الله تعالى نفسه بالأسماء الجليلة "الرحمن الرحيم"، فإن هذه الصفات تدل على سعة وشمول رحمته ومحبته. هذه الرحمة الإلهية تشمل جميع الكائنات، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، مطيعين أو عصاة. ومع ذلك، فإن الإحساس الحقيقي بهذه المحبة في حياتنا اليومية يتطلب منا فتح قلوبنا وتنمية البصيرة الداخلية، مما يمكننا من التعرف على مظاهرها التي لا تعد ولا تحصى من حولنا وفي أنفسنا. الخطوة الأولى وربما الأساسية للشعور بمحبة الله هي التأمل العميق في خلقه العظيم. كل ما نراه في الكون، من أصغر ذرة إلى أعظم المجرات، من النظام الدقيق للطبيعة إلى التعقيدات اللامتناهية للوجود البشري، كلها مرآة صافية تعكس القوة التي لا تنضب، والحكمة اللانهائية، والأهم من ذلك، المحبة اللامتناهية لخالقنا الرحيم. يدعونا القرآن الكريم في آيات عديدة بلهجة مشجعة للتفكر والتدبر في هذه "الآيات" أو العلامات. على سبيل المثال، في سورة الروم، الآية 21، يقول تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). عندما نتأمل في هذا النظام المحكم، والجمال الذي لا يضاهى، والتصميم الذي لا تشوبه شائبة، فإننا نُقاد حتمًا إلى الإقرار بعظمته وإحسانه. وهذا الإدراك هو بداية الشعور بمحبته اللامتناهية. هذا الشعور بالرهبة والتبجيل والامتنان يفتح بوابة لقلوبنا، مما يجعلنا مستعدين لاستقبال النعمة والمحبة الإلهية. هل يمكن للمرء حقًا أن يرى هذا الخلق الكامل والخالي من العيوب، بكل دقته وتعقيده، ويبقى غير مدرك للمحبة اللامتناهية لخالقه؟ كل نفس نأخذه، وكل قطرة ماء نشربها، وكل لقمة طعام نأكلها، وكل لحظة سلام وأمان نختبرها— كلها هدايا غير مشروطة منه، مُنحت لنا بعناية ودقة لا تقدر بثمن. إن فهم هذه الوفرة من النعم هو، بحد ذاته، أعظم تجلٍ لمحبته. المسار الثاني الحيوي هو الانتباه العميق والعمل بتوجيهات الله، التي وصلتنا عبر القرآن وسنة الأنبياء. إن الله تعالى لم يخلقنا ثم يتركنا وشأننا؛ بل من خلال إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية (التي يمثل القرآن الكريم ذروتها)، ووضع علامات واضحة في الطبيعة وفي أنفسنا، فقد بيّن لنا الطريق الصحيح في الحياة، سبيل النجاح الأسمى والكمال. وهذا بحد ذاته أعظم دليل على محبته واهتمامه، إذ لا يريد لعباده أن يضلوا في ظلام الجهل والضلال، مما يؤدي بهم إلى الهلاك. عندما نعيش وفقًا لتعاليم القرآن، ونعمل بأوامره، ونبتعد عما نهى عنه، فإننا نشعر بوضوح بنور الهداية الإلهية يضيء حياتنا. هذا النور هو تجلٍ حي لمحبة الله، يرشدنا عبر الصعوبات، ويجلب السلوان لقلوبنا، وينير طريقنا. إن اتباع هذه الهداية الإلهية يجلب السلام الداخلي، والاستقرار الروحي، ورضا النفس، وهذا الشعور بالهدوء والطمأنينة الداخلية هو انعكاس مباشر لمحبته في قلوبنا. لو لم يكن الله يحبنا، فلماذا كان سيرسل لنا هذا التوجيه الثمين الذي لا مثيل له؟ لماذا كان سيرسل الأنبياء ليعلمونا؟ هذه الإرشادات هي مؤشرات عميقة لمحبته، فهو يريدنا أن نعيش أفضل حياة ممكنة وأن نحقق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. العامل الثالث البالغ الأهمية هو الشكر والامتنان لنعم الله التي لا تحصى. عندما نتأمل في النعم التي لا تعد ولا تحصى ولا تحد التي أنعم الله بها علينا، ونكون ممتنين حقًا من أعماق وجودنا لها، فإن قلوبنا تنفتح له، وتتوطد صلتنا بخالقنا. الشكر، كما وعد الله تعالى في سورة إبراهيم، الآية 7، لا يؤدي فقط إلى زيادة النعم ("لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" - لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)، بل يعزز أيضًا ارتباطنا بالمصدر الأصلي والأبدي لهذه النعم. إنه يحيي فينا الشعور بالحب الإلهي والرعاية والنعمة. في كل مرة نعبر فيها عن الشكر على الصحة، أو العائلة المحبة، أو الوظيفة المباركة، أو الطعام اللذيذ، أو السقف الذي يظلنا، أو حتى شروق الشمس الجميل والنسيم البارد، فإننا ندرك، في جوهر الأمر، محبته اللامتناهية. يفتح الشكر منظورنا تجاه النعم الإلهية، مما يساعدنا على رؤية وفرة النعم واتساعها بدلاً من التركيز على أوجه النقص المتصورة. وهذا بحد ذاته أفضل طريقة للشعور بوجوده ومحبته. رابعاً، إقامة صلة مستمرة وقلبية مع الله من خلال العبادات. الصلاة، الدعاء، الذكر، تلاوة القرآن، وكل عمل من أعمال العبادة الخالصة، هي سبل تقربنا أكثر فأكثر إلى الله. في لحظات الخلوة العميقة والمناجاة الحميمة هذه، يمكن للمرء أن يشعر مباشرة بذروة محبة الله وقربه واستجابته. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 186، بلهجة حميمة ومطمئنة: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). توضح هذه الآية بوضوح قرب الله المباشر واستجابته السريعة، وهو قمة محبته واهتمامه بعباده. عندما نصلي وتستجاب دعواتنا، أو حتى عندما نلجأ إليه في لحظات الصعوبة القصوى واليأس ونشعر فجأة بالسلام والقوة، فإن هذه كلها مظاهر ملموسة لمحبته. إن الصلاة حقاً هي معراج المؤمن وأفضل فرصة للهمس مع الخالق والشعور بوجوده الدافئ ولطفه اللامتناهي في أعماق كياننا. خامساً، بث المحبة للآخرين وخدمة خلق الله بإخلاص وتفانٍ. من أجمل الطرق وأكثرها واقعية لتجربة محبة الله وعكسها، هي إظهار هذه المحبة في أفعالنا وسلوكياتنا تجاه إخواننا في الإنسانية. عندما نظهر المحبة للآخرين، ونمد يد العون للمحتاجين، ونساعد المظلومين، ونتجاوز عن أخطاء الآخرين، أو حتى نجلب الراحة لشخص ما بابتسامة وكلمات طيبة، فإننا نسير، في جوهر الأمر، على طريق المحبة الإلهية ونقرب أنفسنا من نبعها الفياض. يذكر الله صراحة في القرآن أنه يحب المحسنين. على سبيل المثال، في سورة آل عمران، الآية 134، يقول: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين). عندما نسلك طريق المحبة والإحسان، نشعر أننا نحن أنفسنا نرتوي من هذا النبع من الحب، وهذا الشعور بالسلام الداخلي والرضا هو مؤشر واضح على محبة الله لنا، ينعكس من خلال أفعالنا. سادساً، الصبر والثبات في مواجهة الابتلاءات والمحن الإلهية. الحياة لا تخلو من التحديات والمصاعب؛ هذه هي طبيعة الدنيا. ومع ذلك، يمكن أن يكون منظورنا لهذه الصعوبات تحوليًا. إذا كان لدينا إيمان راسخ بأن الله رحيم ولا يريد لنا إلا الخير والصلاح الحقيقي، فحتى في أصعب الظروف وأمرّ المصائب، يمكننا أن ندرك لمحات من محبته وحكمته. يعلمنا القرآن أن الابتلاءات الإلهية هي أدوات للنمو الروحي، وتطهير النفس، ورفع درجتنا في الإيمان. في سورة البقرة، الآية 155، يقول تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). في هذه الاختبارات، يريد الله أن يكشف عن إمكانياتنا الخفية، ويقوي عزيمتنا، ويقربنا إليه. إن تحمل هذه الصعوبات بالصبر والتوكل على الله والرضا بقضائه وقدره، يسمح لنا برؤية حكمته العميقة ومحبته الكامنة وراء المظاهر التي تبدو غير سارة للأحداث. نشعر أنه يرعانا دائمًا ويصاحبنا. هذا الشعور بالرعاية والمساعدة الثابتة هو أعمق شكل من أشكال فهم المحبة الإلهية. سابعاً وأخيراً، التوبة الصادقة والعودة المستمرة إليه. إن الله هو التواب الرحيم. كل إنسان قد يخطئ ويرتكب الذنوب طوال حياته، ولكن بحر المغفرة الإلهية اللامحدود مفتوح دائمًا ومستعد لاحتضان عباده. في سورة الزمر، الآية 53، يقول تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). عندما يعود الإنسان إلى الله بندم صادق وتوبة حقيقية، يشعر على الفور بخفة ونقاء وهدوء لا مثيل له. هذا الغفران غير المشروط والقبول من الله هو تجلي لا يضاهى لمحبته، يطهر القلب من كل يأس ويمنحه حماساً متجدداً للحياة. إن الشعور بالمغفرة والقرب مرة أخرى بعد التوبة هو علامة قوية على محبة الله اللامتناهية وعطفه بلا حدود. في الختام، إن الشعور بمحبة الله هو رحلة روحية مستمرة، وليست وجهة ثابتة أو نهائية. تتطلب هذه الرحلة مراقبة دائمة للنفس، والالتزام بتعاليم القرآن المحيية، وفتح القلب والروح بلا توقف أمام النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى. كلما اقتربنا أكثر من الله في حياتنا، وكلما عرفناه أكثر، وكلما توكلنا عليه بإيمان ويقين كاملين، كلما تمكنا بعمق أكبر من لمس محبته اللامتناهية وثابتة في كل لحظة من حياتنا— في كل نعمة صغيرة وفي كل ابتلاء عظيم. هذه المحبة هي أعظم رصيد في حياتنا، وهي مصدر خلاصنا وسعادتنا و Bliss الأبدي في هذا العالم الفاني وفي الآخرة الباقية.
ذات يوم، رأى رجل ثري وقلق دائمًا، على ضفة نهر، درويشًا يجلس بسلام تحت شجرة، يستمع إلى ألحان الطيور، بوجه بشوش وقلب هادئ. الرجل الثري، الذي لم يجد لحظة راحة بسبب وفرة ثروته والقلق المستمر من الحفاظ عليها، سأل الدرويش بدهشة: "يا درويش، أراك لا تملك مالًا ولا بيتاً، ومع ذلك يبدو أن لديك طمأنينة أفتقدها أنا، على الرغم من كل ثرواتي. ما سر هذا السلام الداخلي؟" ابتسم الدرويش وأجاب: "يا أخي، أنت تبحث عن الكنز في الممتلكات، بينما أنا أبحث عنه في ذاتي. كل نفس آخذه، وكل مرة أشرب فيها الماء، وكل صوت يصل إلى أذني من هذه الطبيعة الجميلة، أعتبر كل ذلك علامة على محبة الرب وفضله. أشعر بمحبته في كل ذرة من هذا العالم وفي كل لحظة من حياتي. كيف يمكن لمن يثق بالله ويرى نفسه تحت حماية محبته أن يقلق؟ هذه الطمأنينة هي ثمرة الثقة في من هو رحيم بلا حدود ولا يتخلى عن عباده أبدًا." عند سماع كلمات الدرويش، غرق الرجل الثري في تأمل عميق. ولأول مرة، فهم المعنى الحقيقي للثراء والسلام، وأدرك أن المحبة الحقيقية لا توجد في الحسابات المصرفية أو المدخرات المالية، بل في معرفة المصدر الأسمى لكل الخير والاتصال به.