لإيجاد نظرة أبسط للحياة من منظور قرآني، ينبغي التركيز على التوكل الكامل على الله، وفهم طبيعة الدنيا الفانية مع التركيز على الآخرة. وتشمل المبادئ الأساسية القناعة والشكر والاعتدال في جميع الأمور، مما يجلب السلام الداخلي والتحرر من التعقيدات غير الضرورية.
للحصول على نظرة أبسط للحياة، يقدم القرآن الكريم توجيهات عميقة وعملية يمكن أن تجلب السلام إلى القلب والعقل، وتُحرّر الفرد من التعقيدات والهموم غير الضرورية. يرتكز هذا النهج القرآني على أسس متينة من الإيمان، والتوكل على الله، والقناعة، والشكر، والتركيز على الأبدية. في الواقع، البساطة من منظور القرآن لا تعني التخلي عن الدنيا، بل تعني النظر إليها بمنظور صحيح ومتوازن، ووضعها في مكانتها الحقيقية كمعبر إلى الآخرة. البساطة الحقيقية داخلية؛ أي السكينة والخفة التي تنبع من الإيمان العميق والعمل بتعاليم الله، لا مجرد تقليل الماديات أو العزلة. فالقرآن يدعونا إلى التوازن ويُظهر لنا كيف يمكننا أن نعيش في الدنيا مع التحرر من قيودها والعثور على السلام. أحد المبادئ الأساسية لتحقيق نظرة أبسط هو "التوكل الكامل على الله". عندما يصل الإنسان إلى هذا اليقين القلبي بأن الله تعالى وحده هو الرازق، والحافظ، والمدبر لكل الأمور، فإن أعباءً ثقيلة ترفع عن كاهله. فالقلق من المستقبل، والخوف من عدم تحقيق الأماني، والقلق الناتج عن النقص، كلها تنبع من عدم التوكل الكافي. القرآن الكريم يشير إلى هذا الموضوع في آيات عديدة. على سبيل المثال، في سورة الطلاق، الآية 3 يقول: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" أي: "ومن يتوكل على الله فهو كافيه." توضح هذه الآية بجلاء أنه إذا أوكل الإنسان أموره إلى الله، فإن الله سيكون كافياً له. هذا التوكل لا يعني التقاعس عن العمل وترك الجهد، بل يعني بذل الجهد والتخطيط مع الثقة القلبية بالمشيئة الإلهية. عندما نعلم أن كل شيء في يديه، وأنه أعلم بما هو خير لنا وشر، فلا حاجة لتعقيد الحياة والانغماس في الحسرات والأطماع. الحياة بالتوكل تصبح أبسط وأكثر إمتاعًا، لأن القلق من النتائج يفسح المجال للسلام والرضا. تمنح هذه النظرة الإنسان القدرة على التعامل مع التحديات، لأنه يعلم أن قوة عليا ورحيمة تدعمه، وأن كل ما يحدث هو في النهاية لصالحه. مبدأ آخر مهم هو "فهم الطبيعة الفانية للدنيا والتركيز على الآخرة". العديد من ضغوطنا العقلية والهموم تنشأ لأننا نعتبر الدنيا هي الهدف النهائي، ونسعى بلا توقف لتحقيق ملذاتها ونجاحاتها. لكن القرآن يذكرنا مرارًا بأن الحياة الدنيا ليست سوى متاع زائل ولهو ولعب. في سورة العنكبوت، الآية 64 نقرأ: "وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" أي: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية، لو كانوا يعلمون." هذه الآية تحول نظرة الإنسان من الهموم المادية الزائلة للدنيا إلى الحياة الأخروية الأبدية. عندما يتيقن الإنسان أن هناك حياة حقيقية دائمة تنتظره في الآخرة، تبدو الأمور الدنيوية أصغر في نظره، ولا يرى حاجة للمنافسات العبثية أو التراكم المفرط للمال والمكانة. تمنح هذه النظرة الإنسان شعورًا غير عادي بالسكينة، وتُحرره من الجشع والطمع. بساطة الحياة تبدأ من هنا، حيث يكون هدف الإنسان ليس الدنيا، بل رضا الله والآخرة. هذه البصيرة تساعدنا على إعادة تحديد أولوياتنا وتكريس وقتنا وطاقتنا لأمور ذات قيمة أبدية، بدلاً من الأمور التي تنتهي بانتهاء الدنيا. ونتيجة لذلك، فإن التركيز على الآخرة يؤدي تلقائيًا إلى تقليل التعقيدات الذهنية والمادية في هذه الدنيا. "القناعة والشكر" جناحان مهمان للتحليق نحو حياة أبسط وأكثر رضا. القناعة تعني الرضا بما هو موجود والبعد عن المبالغة في الطلب والجشع. هذا المفهوم ليس متناقضًا مع الكسل وعدم السعي للتقدم، بل هو متناقض مع الطمع والجشع وعدم الرضا الدائم. عندما يكون الإنسان قنوعًا، فإنه لا يقارن نفسه بالآخرين باستمرار ويستمتع بما لديه. هذا الرضا الداخلي هو العامل الأكثر أهمية للتحرر من الضغوط الاجتماعية والرغبة في المنافسات اللانهائية. أما الشكر، فيعني رؤية نعم الله وتقديرها، حتى لو بدت صغيرة. في سورة إبراهيم، الآية 7 يقول الله: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" أي: "لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد." توضح هذه الآية أن الشكر لا يؤدي فقط إلى زيادة النعم، بل يغير نظرة الإنسان للحياة. عندما يكون الإنسان شاكرًا، يمتلئ قلبه بالرضا، ولا يرى حاجة إلى الكماليات والإضافات. البساطة في الحياة تجد معناها من خلال الشكر على ما نملك والقناعة بما قدره الله لنا. هاتان الصفتان تساعداننا على تقبل الحياة بكل تقلباتها والاستمتاع بكل لحظة فيها. أخيرًا، "الاعتدال وتجنب الإسراف" أمر حيوي. يدعو القرآن الكريم الإنسان دائمًا إلى الاعتدال في جميع الأمور، ويحذره من الإفراط والتفريط. في سورة الأعراف، الآية 31 يقول: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" أي: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين." هذه الآية لا تنطبق فقط على الأكل والشرب، بل على جميع جوانب الحياة. الإسراف ليس فقط في إنفاق المال والموارد المادية؛ فإضاعة الوقت، والطاقة، وحتى الأفكار يمكن أن تعقد الحياة. المبالغة في التخطيط، والكمالية المفرطة، وتراكم المعلومات غير الضرورية، كلها يمكن أن تقلل من بساطة الحياة. عندما يمتنع الإنسان عن الإفراط في أي شيء، تصبح حياته أكثر تنظيمًا وهدوءًا وأبسط بكثير. الابتعاد عن الترف، والاستهلاكية، والمنافسات المادية غير الصحية، يساعد الإنسان على التركيز على ما يهم حقًا، وهو العلاقة مع الله، والعائلة، والصحة، ومساعدة الآخرين، والاستمتاع بحياة ذات جودة وبساطة. هذا الاعتدال في جميع أبعاد الحياة، من العلاقات الاجتماعية إلى الإدارة المالية وحتى التفكير، يمكن أن يساعدنا على تجربة الحياة المعقدة اليوم بطريقة أبسط وأكثر سلامًا. وبشكل عام، البساطة من منظور القرآن هي حالة داخلية تنبع من إيمان عميق والعمل بتعاليم الله، مما يؤدي إلى سلام ورضا دائمين في الدنيا والآخرة.
يُروى أنه في قديم الزمان، عاش جارَان متجاوران: أحدهما تاجر ثري، والآخر درويش قنوع. كان التاجر يفكر كل يوم في زيادة أمواله وثرواته، ولهذا كان يسهر الليل لا ينام، ويجري في النهار لجمع المزيد. ورغم ثروته الطائلة، كان دائم القلق من فقدان ممتلكاته، ويتحسر على ما لا يملك. أما الدرويش، فمع أنه لم يملك سوى قميص يستر به جسده وكأس ليشرب منه الماء، كان دائم الشكر والابتسامة. ذات ليلة، رأى التاجر في منامه أن الدرويش يمشى بابتسامة هادئة في بستان مليء بالنعم، بينما هو نفسه يتيه بوجه عبوس ويدين فارغتين في صحراء قاحلة. استيقظ التاجر مذهولاً ونظر إلى الدرويش. في اليوم التالي، ذهب إلى الدرويش وسأله: "يا رجل الله، ما سرك أنك مع كل هذا النقص، هادئ البال وسعيد؟" أجاب الدرويش: "لأن قلبي لا يتعلق بشيء أخشى أن أفقده، ولا عيني تتوق إلى ما يملكه الآخرون. أنا قانع بما رزقني الله وشاكر له. تحررت من عبودية الدنيا، وأعتبر نفسي عبداً حقيقياً لله. متاع حياتي بسيط، وأعباء الدنيا لا تثقل كاهلي. هذه البساطة والحرية منحتني السلام والفرح الحقيقي." أخذ التاجر العبرة من كلام الدرويش وسعى لتغيير نظرته للحياة، والابتعاد عن الجشع والطمع، ليذوق طعم السلام والبساطة الحلو. هذه الحكاية الجميلة من بستان سعدي تذكرنا أن البساطة ليست في قلة الممتلكات، بل في قلة الرغبات والقناعة القلبية.