يقدم القرآن إرشادات عامة لاتخاذ القرارات تشمل التوكل على الله، والتشاور مع أصحاب المعرفة، والتقوى، واكتساب العلم، والصبر. هذه المبادئ، بالإضافة إلى الدعاء والاستخارة، تنير طريق اتخاذ القرار للمؤمن وتمنحه راحة البال.
اتخاذ القرارات جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية. من الخيارات الصغيرة إلى القرارات المصيرية، نواجه دائمًا خيارات متعددة. بالنسبة للمسلم، القرآن الكريم ليس مجرد كتاب هداية ونور، بل هو مصدر غني للعثور على المبادئ والتوجيهات في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك عملية اتخاذ القرارات. القرآن لا يقدم لنا خوارزمية دقيقة لكل قرار محدد، بل يقدم إطارًا شاملاً للقيم والمبادئ الأخلاقية والنهج الروحي الذي يمكن أن يساعدنا في اتخاذ أفضل القرارات. هذه التوجيهات تساعدنا على اختيار الطريق الصحيح بالاعتماد على الله، والتشاور مع الآخرين، والبصيرة الداخلية. المبدأ الأول والأكثر أهمية في اتخاذ القرارات القرآنية هو التوكل على الله. بعد التفكير العميق وجمع المعلومات اللازمة، فإن الخطوة الأخيرة هي تسليم النتيجة لله تعالى. هذا لا يعني عدم السعي أو تجاهل العقل، بل يعني أننا بعد بذل كل الجهود وإجراء جميع الفحوصات اللازمة، نسلم قلوبنا لله ونثق في حكمته. يؤكد القرآن الكريم في آيات متعددة على أهمية التوكل. على سبيل المثال، في سورة آل عمران (الآية 159) نقرأ: "...فإذا عزمت فتوكل على الله ۚ إن الله يحب المتوكلين." هذه الآية تبين بوضوح أن التوكل يجب أن يأتي بعد العزم والإرادة الجادة. كما يقول في سورة الطلاق (الآية 3): "ومن يتوكل على الله فهو حسبه." هذه الآية تمنح المؤمن الطمأنينة والأمان بأن نتيجة جهوده، إذا كانت مصحوبة بنية خالصة وتوكل، ستكون على أفضل وجه. يمنح التوكل الإنسان الشجاعة لمواجهة الخوف من المجهول، والمضي قدمًا بسلام، لأنه يعلم أن قوة عليا وحكيمة تدعمه. المبدأ الرئيسي الثاني هو الشورى (الاستشارة). يوصي القرآن الكريم بشكل مباشر بالتشاور في الأمور الهامة للحياة. في نفس الآية 159 من سورة آل عمران، يأمر الله نبيه: "وشاورهم في الأمر." على الرغم من أن هذا الخطاب موجه إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، إلا أنه درس لجميع المسلمين بأن التشاور مع ذوي الخبرة والمعرفة، حتى مع وجود الحكمة الإلهية، أمر مستحب وضروري. التشاور يسمح بفحص الأبعاد المختلفة للمشكلة من زوايا متعددة، ويكشف نقاط الضعف والقوة التي قد تكون مخفية عن الفرد. تمنع الشورى الاستبداد والتكبر، وتعزز روح التعاون والتفكير الجماعي. بالطبع، التشاور لا يعني الخضوع المطلق لآراء الآخرين، بل هو جمع للمعلومات ووجهات النظر المختلفة للوصول إلى أفضل قرار. اختيار المستشارين أمر بالغ الأهمية أيضًا؛ يجب أن يكونوا أشخاصًا أتقياء، وذوي معرفة، ومخلصين، وذوي خبرة. المبدأ الثالث هو التقوى والخشية من الله. التقوى تعني ضبط النفس والالتزام بحدود الله في جميع الأمور. الشخص الذي يتمتع بالتقوى، يضع دائمًا رضا الله في اعتباره عند اتخاذ قراراته، ويتجنب ما يغضبه. يقول القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" (سورة الأنفال، الآية 29). هذا "الفرقان" هو البصيرة والتبصر الذي يساعد الإنسان على تمييز الحق من الباطل بين الخيارات العديدة. تعد التقوى القلب والعقل لاستقبال الهداية الإلهية وتحمي من وسوسة الشيطان والأهواء النفسية التي غالبًا ما تؤدي إلى قرارات خاطئة. عندما تكون قراراتنا مبنية على التقوى، حتى لو لم تكن النتيجة الظاهرية وفقًا لرغباتنا، فإنها ستحقق أفضل النتائج الروحية والأخروية. الجانب الرابع هو البحث عن المعرفة والتفكير (التعقل). يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا الإنسان إلى التفكير والتدبر واكتساب العلم. يجب أن تستند القرارات إلى معلومات كافية ومعرفة صحيحة. العجلة والجهل غالبًا ما يؤديان إلى الندم. يقول القرآن: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة الزمر، الآية 9). تؤكد هذه الآية على أهمية العلم والمعرفة في جميع جوانب الحياة. قبل أي قرار، يجب أن نسعى جاهدين لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات ذات الصلة، ووزن جوانبها المختلفة، وتوقع النتائج المحتملة. تتضمن هذه العملية البحث والدراسة والاستفسار من الخبراء والمتخصصين. كما أن التدبر في آيات القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) هو بحد ذاته مصدر عظيم للمعرفة والحكمة في اتخاذ القرارات. المبدأ الخامس هو العدل والإنصاف. يشدد القرآن على إقامة العدل في جميع الأمور، حتى ضد النفس أو الأقارب المقربين. يجب أن تكون القرارات التي نتخذها عادلة ولا تنتهك حقوق أي شخص. في سورة النساء (الآية 135) جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ..." يعلمنا هذا المبدأ ألا نقدم المصالح الشخصية أو الجماعية على العدل والحق في قراراتنا، بل أن نعمل دائمًا وفقًا للإنصاف والمعايير الإلهية. الجانب السادس هو الصبر والمثابرة. بعض القرارات تتطلب وقتًا ولا يجب التسرع فيها. الصبر في دراسة الجوانب، والصبر في انتظار النتائج، والصبر في مواجهة تداعيات القرار، كلها من تعاليم القرآن. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (سورة البقرة، الآية 153). تبين هذه الآية أن الصبر والتوكل مع العبادة أدوات قوية للتغلب على التحديات واتخاذ القرارات الصحيحة. أخيرًا، تحتل الدعاء والاستخارة مكانة خاصة في عملية اتخاذ القرار القرآني. على الرغم من أن مفهوم الاستخارة لم يرد تفصيله صراحة في القرآن، إلا أن المبدأ العام للدعاء وطلب الهداية من الله قد تم التأكيد عليه في العديد من الآيات. الاستخارة هي في الأساس نوع من الاستشارة مع الله؛ عندما يبذل الإنسان كل جهده العقلاني والاستشاري ولا يزال في شك، فإنه يدعو دعاء الاستخارة، يطلب من الله أن يكشف له أفضل طريق ويوجه قلبه نحو ما هو خير وصلاح له. يظهر هذا الفعل أقصى درجات التوكل والتسليم لإرادة الله ويمنح الإنسان راحة قلبية لا مثيل لها. باختصار، القرآن الكريم هو دليل شامل للحياة يحول عملية اتخاذ القرار إلى رحلة روحية. تبدأ هذه الرحلة بالتوكل على الله، وتثرى بالشورى واكتساب المعرفة، وتجد طريقها بالتقوى والعدل، وتمضي بالصبر والمثابرة، وتصل إلى كمالها بالدعاء وطلب الهداية الإلهية. هذا النهج لا يساعدنا فقط في اتخاذ قرارات أفضل، بل يساهم أيضًا في نمونا الروحي ويجلب حياة مليئة بالبركة والسكينة. يوجه هذا الإطار القرآني الفرد ليواجه حتى أعقد المشاكل بثقة وسلام، مع العلم أن أي قرار يتخذ بناءً على هذه المبادئ سيؤدي في النهاية إلى رضا الله.
حكي أن ملكًا حكيمًا وذكيًا وجد نفسه في حيرة بشأن مسألة صعبة طرأت. كانت هذه المسألة يمكن أن تؤثر على مصير شعبه. كان بإمكانه اتخاذ قرار من تلقاء نفسه، لكنه علم أن الحكمة تكمن في التشاور. فاستدعى وزراءه وعلماء بلاطه وطلب رأي كل منهم. قدم كل منهم رأيه، واستمع الملك بصبر إلى أقوالهم. ثم اعتزل بنفسه وتفكر بينه وبين ربه. طلب في قلبه الهداية من الله، وبالاعتماد على البصيرة الداخلية التي علم أنها نابعة من تقواه، وبدمج المشاورات والحكمة الإلهية، اتخذ قرارًا لم يحل المشكلة فحسب، بل كان في صالح الجميع وأقام العدل. فرح الناس بقراره وتعجبوا من حكمة الملك. ابتسم الملك وقال: "هذه نتيجة الثقة بالله والاستماع إلى الحكمة الجماعية."