للنظر بصدق في النوايا، يجب ممارسة الوعي الذاتي والإخلاص في الأعمال باستمرار، وتجنب الرياء، لأن الله عليم بجميع النوايا.
إن النظر بصدق إلى النوايا هو عمود الحياة الروحية في الإسلام، والقرآن الكريم يقدم إرشادات واضحة في هذا الصدد. النية، قبل أي عمل، تُعتبر أساسه، وفي المدرسة الإسلامية، تعتمد قيمة وقبول أي فعل على النية التي تكمن وراءه. لقد أكد الله تعالى ورسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) باستمرار على أهمية إخلاص النية، أي «الإخلاص». والإخلاص يعني أداء الأعمال لوجه الله تعالى وحده، دون إشراك أي أحد آخر في هذه النية، سواء كان ذلك من باب الرياء والتظاهر، أو من باب السعي وراء منفعة مادية أو شهرة. يدعونا القرآن الكريم إلى التفكير العميق والوعي الذاتي، حاثاً إيانا على الانتباه إلى ما يختبئ في القلوب. في سورة البقرة، الآية 284، يقول الله تعالى: «لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». هذه الآية تبين بوضوح أن الله عليم بما نظهره وما نخفيه، وأن ما في داخلنا سيُحاسب عليه. يجب أن يدفعنا هذا الوعي إلى النظر في نياتنا بدقة وصدق، فلا شيء يخفى عن نظر الرب. لتحقيق الصدق في النوايا، يجب علينا تنقية قلوبنا باستمرار والتساؤل عن دوافعنا. هل عملنا مجرد سعي لكسب إعجاب الناس، أم أنه لرضا الله؟ هل هناك هدف آخر غير السعي للقرب الإلهي كامن فيه؟ من أهم الطرق للصدق مع النوايا هي ممارسة «محاسبة النفس». هذه سنة إسلامية عميقة، حيث يقوم الفرد بمراجعة أعماله ونواياه في نهاية كل يوم أو بشكل دوري، ويسأل نفسه لماذا قام بهذه الأعمال. هل كانت النوايا خالصة؟ يساعدنا هذا التأمل الصادق في تحديد الدوافع غير النقية واتخاذ خطوات لتصحيحها. يؤكد القرآن مراراً على سلامة القلب، لأن القلب هو موطن النوايا. في سورة الشعراء، الآيتين 88 و 89، نقرأ: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». تشير هذه الآية إلى أنه في يوم القيامة، لن ينفع الإنسان إلا القلب الذي طهر من كل شوائب وشرك. وبالتالي، فإن السعي لتحقيق «القلب السليم» يتطلب تطهيراً مستمراً للنوايا من كل ما هو غير مرضاة الله. كما أن القرآن الكريم يذم بشدة الرياء والنفاق، وهما نقيض الإخلاص والصدق في النوايا. في سورة النساء، الآية 142، في وصف المنافقين، جاء: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا». تُظهر هذه الآية بوضوح أن النية الأساسية للمنافقين هي التظاهر وجذب انتباه الناس، وليس عبادة الله بإخلاص. لتجنب الوقوع في فخ الرياء والنفاق، يجب أن ننظر إلى نياتنا بعين ناقدة ونتأكد من أن أعمالنا تنبع من إخلاص النية وليس من التظاهر. للوصول إلى هذا الصدق، يمكننا اتخاذ خطوات عملية. الخطوة الأولى هي فهم مفهوم الإخلاص وإدراك عمقه. الخطوة الثانية هي الدعاء والتضرع إلى الله لطلب المساعدة في إخلاص النوايا، فهو وحده القادر على تطهير القلوب. الثالثة، التأمل في آيات القرآن التي تتناول أهمية النية والقلب. الرابعة، أداء الأعمال الصالحة سراً ودون علم الآخرين، حتى تعتاد النفس على الإخلاص وتتجنب الرياء. الخامسة، الابتعاد عن الأشخاص الذين دافعهم الرئيسي في أعمالهم هو كسب الثناء والقبول من الآخرين، لأن هذا النوع من الصحبة يمكن أن يؤثر على نياتنا أيضاً. السادسة، التذكير الدائم بيوم القيامة وحساب الأعمال، حيث يساعد هذا التذكير على جعل النوايا أكثر إخلاصاً، لأننا نعلم أنه في ذلك اليوم لن تُقبل إلا النوايا الطاهرة. في الختام، الصدق مع النوايا هو رحلة مستمرة، وليس محطة وصول. مع كل عمل وكل قرار، يجب أن نعود إلى أنفسنا ونسأل: «لماذا أفعل هذا حقاً؟» هذا التساؤل المستمر يبقينا على طريق الإخلاص والصدق ويوجهنا نحو مرضاة الله. تتطلب هذه العملية الشجاعة، ومعرفة الذات، والالتزام المستمر بالمبادئ القرآنية، لأن إخلاص النية هو مفتاح قبول الأعمال وتحقيق السلام الحقيقي في الدنيا والآخرة.
ذات يوم، ضمن حكايات كلستان سعدي المبهجة، ادعى رجل زاهد أنه يقضي لياليه في العبادة وأيامه في الصيام. كان يفتخر بصدق نواياه. فقال له الشيخ سعدي بابتسامة تحمل عمق الحكمة: «أيها الدرويش، إنك تنظر إلى الظواهر وتظن أنك من الصالحين. ولكن هل نظرت إلى نيتك بصدق، هل هذه العبادات لرضا الحق أم للرياء في أعين الخلق؟ إذا كانت نيتك خالصة لله، فسواء كنت معروفاً أو غير معروف، فإنه يراك ويكافئك. أما إذا كانت نيتك لغير الله، فمهما بذلت من جهد في العبادة، فلن ترى إلا الخسران. فالنية الصادقة أثمن من مئة صلاة بلا إخلاص.» فكر الرجل الزاهد ملياً بعد سماع هذه الكلمات، وأدرك أن الصدق في النية هو الجوهر الحقيقي لكل عبادة، وبدونه، ستكون الأعمال مجرد قشور بلا مضمون.