لتنقية النية في العبادة، وهي الإخلاص، يجب أن يكون الهدف الوحيد هو رضا الله، وتجنب أي شكل من أشكال الرياء والتفاخر. يتحقق ذلك بالمراقبة الذاتية المستمرة، والتركيز على عظمة الله، والدعاء والتضرع إليه، فالإخلاص هو جوهر قبول الأعمال.
تَنقية النية في العبادة، التي يُطلق عليها في الاصطلاح الإسلامي «الإخلاص»، هي أحد الأركان الأساسية والحيوية لأي عمل صالح. لقد أكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أهمية الإخلاص، لأنه بدون نية خالصة، لا يُقبل أي عمل، مهما كان عظيمًا ومثيرًا للإعجاب، عند الله تعالى. يقول الله تعالى في القرآن: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (سورة البينة، الآية 5)؛ وهذا يعني "وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الطاعة، مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه." هذه الآية تظهر بوضوح أن جوهر وأساس العبودية هو الإخلاص في النية. الإخلاص يعني أن جميع أعمالنا، سواء كانت عبادية أو غير عبادية، تُؤدى فقط وفقط لتحقيق رضا الله تعالى، دون أي شائبة من الرياء، أو التفاخر، أو جذب انتباه الناس، أو السعي لتحقيق مكاسب دنيوية. لِكي ننقي نيتنا في العبادة، يجب أن نتخذ خطوات عملية وروحانية متعددة لها جذور قرآنية وإسلامية قوية. الخطوة الأولى هي الوعي الذاتي والمراقبة الدائمة. قبل البدء بأي عبادة، سواء كانت صلاة، أو صيامًا، أو صدقة، أو حتى مساعدة الآخرين، يجب أن نتوقف لحظة ونسأل أنفسنا: "ما هو هدفي من أداء هذا العمل؟ هل هو مجرد أداء للواجب؟ هل أريد أن أُمدح من قبل الآخرين؟ أم أنني أريد حقًا أن أقترب من ربي وأحصل على رضاه؟" هذا السؤال والجواب الداخلي يساعدنا على تحديد دافعنا الحقيقي وإزالة أي شوائب منه. يشدد القرآن الكريم على التفكر والتدبر بشكل كبير، وهذه المراقبة للنية هي نوع من التفكر العميق في أعمالنا. الخطوة الثانية، هي التركيز على عظمة الله وصغر أنفسنا. عندما يقف العبد أمام رب العالمين، يجب أن يتجه قلبه وعقله بالكامل إليه. هذا التركيز يزيل أي رغبة في التفاخر أمام الخلق. فكلما ازدادت معرفتنا بالله وصفاته، مثل القدرة المطلقة، والعلم اللامتناهي، والرحمة الواسعة، كلما تعمق إخلاصنا. تذكير أنفسنا بأن الله وحده هو الذي يرى أعمالنا ويكافئ عليها يساعدنا على تجنب التظاهر أمام الخلق. تشير الآية 110 من سورة الكهف إلى هذا الأمر: «فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»؛ أي "فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه وجزائه، فليعمل عملاً موافقًا للشرع خالصًا لوجه الله لا يشرك معه غيره." هذا "عدم الإشراك" يعني الإخلاص المطلق. الخطوة الثالثة، هي الابتعاد عن الرياء والسمعة. الرياء هو أداء العمل الصالح ليراه الناس، والسمعة هو أداء العمل الصالح ليُسمع به ويُعرف بين الناس. كلاهما يفسد النية ويُبطل قيمة العمل. وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "خير العمل ما كان خفيًا"، إلا في حالات يكون فيها إظهار العمل تشجيعًا للآخرين. ورغم أن هذا حديث نبوي، إلا أن روحه تتوافق مع التعاليم القرآنية حول التواضع وتجنب التفاخر. السعي لأداء العبادات سرًا، بالقدر الذي لا يضر بالواجبات وحقوق الآخرين، يمكن أن يساعد في تعزيز الإخلاص. على سبيل المثال، الصدقات السرية، وصلاة النوافل في الخلوة، والذكر والدعاء في الخفاء، هي فرص ممتازة لممارسة الإخلاص. يقول الله في القرآن (سورة البقرة، الآية 271): «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»؛ أي "إن تظهروا الصدقات التي تتصدقون بها للفقراء فنِعْمَ ما فعلتم، وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم." هذه الآية تُظهر بوضوح أن الإخفاء في الأعمال الصالحة، خاصة الصدقة، أقرب إلى نقاء النية. الخطوة الرابعة، هي اللجوء إلى الله والدعاء لتحقيق الإخلاص. فالإنسان وحده لا يستطيع التغلب على الوساوس النفسية والشيطانية التي تدفعه نحو الرياء والتفاخر. يجب أن يتضرع إلى الله ويسأله أن يطهر قلبه من كل الشوائب. الأدعية التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم للإخلاص، مثل "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم"، هي أمثلة على طلب هذه المساعدة. القرآن أيضًا مليء بآيات الدعاء التي تدعو الإنسان إلى التضرع إلى الله. الإخلاص هو هبة إلهية تُمنح لمن يطلبها بصدق ويسعى جاهدًا لنيلها. الخطوة الخامسة، هي دراسة وتدبر حياة الأنبياء والأولياء الصالحين. فحياتهم مليئة بدروس الإخلاص. كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في أوج قوته وشعبيته، يعتبر نفسه دائمًا عبدًا ورسولًا لله، وكان يؤدي جميع أعماله فقط لرضا الله. إن الاقتداء بهؤلاء الأوصياء والأولياء الذين كان الإخلاص متغلغلًا في نسيج وجودهم، يمكن أن يكون مصدر إلهام كبير لنا. القرآن الكريم يقدم حياة الأنبياء كأفضل قدوة للبشرية جمعاء. في الختام، الإخلاص هو رحلة، وليس وجهة. يتطلب جهدًا مستمرًا، وتزكية للنفس، ومحاربة النفس الأمارة بالسوء. لا ينبغي للإنسان أبدًا أن يظن أنه قد وصل إلى المرحلة النهائية من الإخلاص. في كل لحظة يجب عليه أن يعيد فحص نيته ويسعى لتنقيتها أكثر فأكثر. بالممارسة والمثابرة، يترسخ الإخلاص تدريجيًا في وجود الإنسان، وتكتسب جميع أعماله صبغة إلهية، وهذا هو السكينة والسعادة التي يسعى إليها الإنسان في الحياة الدنيا والآخرة. يقول الله في سورة الزمر (الآية 2): «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ»؛ أي "إنا أنزلنا إليك أيها الرسول القرآن بالحق، فاعبد الله وحده، مخلصًا له الدين." هذه الآية تأمر بالعبادة الخالصة صراحة، وتظهر أن الإخلاص هو جوهر التدين. لذلك، لتنقية النية، يجب على المرء أن يرى نفسه دائمًا في حضرة الله، وأن يتجنب الرياء والتفاخر، وأن يطلب العون منه، وأن يخطو بثبات نحو الإخلاص المحض من خلال الاستمرار في الأعمال الصالحة والمراقبة القلبية.
يُروى في بستان سعدي أن ملكًا عابدًا كان يقوم الليل ويصلي بخشوع ويتضرع بالدعاء. ذات يوم، رآه وزيره في خلوته، وهو يتعبد بتواضع تام. فقال الملك: «أخفني عن الناس، ولا تظن أن هذه العبادة لأظهر حسنًا في أعين الخلق. فلو أثنى عليّ جميع خلق الدنيا والله أعرض عني، لما كان لذلك مثقال ذرة من القيمة.» ثم أضاف: «النية هي ملك الأعمال، وإذا لم تكن النية خالصة، فالعمل كالإناء المكسور: مهما صببت فيه، ينسكب منه ولا يبقى شيء.» تذكرنا مقولة الملك هذه أن نقاء النية هو أساس قبول أي عبادة، وأن ما يدور في سريرة القلب أهم من أي مظهر خارجي.