القرآن دليل شامل. لاتخاذ القرار، يجب التدبر في آياته، والتشاور مع أهل العلم، والتوكل على الله، ثم اللجوء إلى التقوى والاستخارة لإيجاد أفضل سبيل.
القرآن الكريم، الوحي الإلهي، ليس مجرد كتاب للعبادة فحسب، بل هو دليل شامل وكامل لجميع جوانب حياة الإنسان. عند اتخاذ القرارات، خاصة عند مواجهة خيارات صعبة ومصيرية، يمكن للمسلمين بل ينبغي عليهم الاستفادة من هذا النبع الصافي من الهدى. إن استخدام القرآن لاتخاذ القرارات يتجاوز مجرد فتحه وقراءة آية عشوائية؛ بل يتطلب مقاربة شاملة وعميقة تتضمن فهم مبادئ القرآن، ومقاصده، وروحه العامة، ثم تطبيق ذلك على المواقف الحياتية الخاصة. هذه العملية متعددة المراحل تقود الإنسان نحو اختيار واعٍ، ومسؤول، ومتوافق مع الإرادة الإلهية. الخطوة الأولى في الاستفادة من القرآن لاتخاذ القرارات هي "التدبر" في آياته. التدبر يعني التفكير العميق، والتأمل، والفهم الجوهري للمعاني والرسائل الإلهية. يدعونا القرآن نفسه إلى التدبر، حاثًا إيانا على ألا نكتفي بالتلاوة الظاهرية فحسب، بل أن نغوص في باطن كلماته وجمله، مستخرجين رسائله الكامنة. يقول الله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (سورة محمد: الآية 24). يشمل هذا التدبر قراءة الترجمات الموثوقة، والرجوع إلى التفاسير، وفهم سبب النزول للآيات. بالتدبر، يحصل الفرد على مجموعة من القيم، والأخلاق، والمبادئ التوجيهية العامة التي يمكن أن تكون أساسًا متينًا لأي قرار. على سبيل المثال، يؤكد القرآن بشدة على العدل، والإحسان، والصدق، والصبر، والتوكل، واجتناب الظلم، ورعاية حقوق الآخرين. أي قرار يتعارض مع هذه المبادئ الأساسية هو بالتأكيد بعيد عن منهج القرآن. لذلك، قبل اتخاذ أي قرار، يجب على المرء أن يسأل نفسه: هل هذا القرار متوافق مع العدالة الإلهية؟ هل يظلم أحدًا؟ هل تضيع حقوق الآخرين؟ هل هو مبني على الصدق والحق؟ هذا المنظور يساعد قراراتنا على أن تكتسب أساسًا أخلاقيًا وإلهيًا. المقاربة الثانية، هي الاهتمام بـ "مقاصد الشريعة" التي تُستنبط من الروح العامة للقرآن. تشير مقاصد الشريعة إلى الأهداف النبيلة التي يسعى الله لتحقيقها من خلال تشريع الأحكام، مثل حفظ الدين (المعتقدات الصحيحة)، وحفظ النفس (أرواح الناس)، وحفظ العقل (الصحة الفكرية والعلم)، وحفظ النسل (بقاء الأسرة والمجتمع)، وحفظ المال (الممتلكات والاقتصاد). يجب أن يكون كل قرار في هذا الاتجاه وألا يؤدي إلى إخلال بأي من هذه الأصول الخمسة الأساسية. على سبيل المثال، إذا كان قرار ما يساعد على حفظ أرواح الناس، فهو أولى من منظور القرآن. أو إذا كان قرار ما يسهم في النمو الفكري والروحي للفرد أو المجتمع، فهو مؤيد من القرآن. هذا بمثابة فلتر قوي يساعدنا على قياس قراراتنا بالمعايير الإلهية والابتعاد عن الخيارات التي تؤدي إلى الفساد، أو الضرر، أو الانحراف. في جوهرها، تعمل هذه المقاصد كإطار عام لتحليل وتقييم الخيارات المتاحة، مما يمنح صانع القرار بصيرة عميقة. الخطوة الثالثة، هي "المشاورة". يأمر القرآن الكريم النبي (صلى الله عليه وسلم) رغم عصمته وعلمه الإلهي، بالتشاور مع الآخرين: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (سورة آل عمران: الآية 159). تدل هذه الآية على أنه حتى بعد التدبر وفهم المبادئ القرآنية، فإن المشاورة مع الأفراد المختصين، والعلماء، والموثوق بهم، هي مبدأ مهم في اتخاذ القرارات. تساعد المشاورة على إيضاح الأبعاد المختلفة للمسألة، وتكشف الجوانب الخفية، ويستفيد الفرد من تجارب وعلوم الآخرين. يطلب القرآن من المؤمنين أن تكون أمورهم شورى بينهم، لأن العقل الجمعي غالبًا ما يكون أكمل من العقل الفردي. لا ينبغي أن تقتصر هذه المشاورة على الأفراد ذوي التفكير المتشابه فحسب، بل يجب أن تشمل أولئك الذين لديهم وجهات نظر مختلفة، بشرط أن يكونوا من أهل التقوى والصدق، لتقديم مشورة محايدة ومفيدة. المبدأ الرابع هو "التوكل على الله". بعد التدبر، والمشاورة، والسعي لاختيار أفضل الخيارات بناءً على المبادئ القرآنية، يجب على الفرد أن يتوكل على الله بقلبه كله. التوكل لا يعني التخلي عن المسؤولية أو التراخي في الأمور، بل يعني بذل كل الجهود الممكنة، واستخدام كل القدرات العقلية والتشاورية، ثم تسليم النتائج إلى الله، إيمانًا بأن الله يريد الخير والصلاح لعبده. تضع الآية 159 من سورة آل عمران التوكل بعد العزم (اتخاذ القرار النهائي). وهذا يدل على أن التوكل مكمل للعقل والجهد، وبدونه، قد لا تحقق أفضل القرارات النتائج المرجوة. يمنح التوكل الإنسان راحة قلبية، ويزيل القلق عنه، ويقلل من المخاوف غير الضرورية، لأنه يعلم أن الأمر كله بيد القدرة المطلقة والحكمة الإلهية. خامسًا، الاهتمام بـ "التقوى" أمر بالغ الأهمية. التقوى، التي تعني ضبط النفس والخشية من الله، تلعب دورًا محوريًا في جميع مراحل اتخاذ القرار. يقول القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا" (سورة الأنفال: الآية 29). تضيء التقوى قلب الإنسان وتقوي قدرته على التمييز بين الحق والباطل. فالشخص التقي أقل عرضة للوقوع فريسة لأهواء النفس، أو المكاسب الشخصية، أو الضغوط الخارجية، وتكون قراراته أكثر تشكلًا برضى الله. في الحقيقة، التقوى هي بوصلة داخلية ترشد الفرد نحو ما هو حق وخير، وتبعده عن وساوس الشيطان والنفس. امتلاك التقوى، شرط أساسي لفهم رسائل القرآن بعمق وتطبيقها بشكل صحيح في الحياة. سادسًا، "الاستخارة". على الرغم من أن الاستخارة تشير إلى دعاء خاص لطلب الخير من الله عند مواجهة التردد والالتباس (وتفسيرات مثل الاستخارة بالقرآن مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم)، إلا أن روحها قرآنية بالكامل. يؤكد القرآن باستمرار على طلب العون من الله والدعاء. عندما يكون الفرد قد مر بجميع المراحل المذكورة أعلاه – أي التدبر، والمشاورة، والبحث والتحليل – ولكنه لا يزال مترددًا بين عدة خيارات مشروعة وجيدة، فإنه يمكنه حينئذٍ أن يتضرع إلى الله، طالبًا منه الأفضل. هذا العمل يظهر غاية التوكل والتسليم لإرادة الله، وهو في الواقع اعتراف بحدود المعرفة البشرية والحاجة الماسة إلى الهداية الإلهية. لا ينبغي أن تحل الاستخارة محل التفكير والمشاورة، بل يجب أن تُستخدم بعدهما كملجأ أخير لحل الحيرة، خاصة عندما تصل جميع الجهود العقلية والتشاورية إلى طريق مسدود. في الختام، إن استخدام القرآن لاتخاذ القرارات هو عملية حية وديناميكية. يمنحنا القرآن إطارًا أخلاقيًا، وروحيًا، وقانونيًا يمكننا من خلاله تقييم الخيارات المختلفة. يذكرنا هذا الإطار بأن كل قرار نتخذه، له عواقب دنيوية وأخروية، ويجب أن يهدف إلى تحقيق رضا الله والسعادة الحقيقية. لنتذكر أن القرآن هو نور هادي يضيء دروب الحياة في الظلمات ويمنح الإنسان بصيرة ورؤية عميقة. كلما كان ارتباط الإنسان بالقرآن أعمق، كلما أشرق قلبه بنور الله، وزادت قدرته على اتخاذ القرارات الصحيحة والعادلة. هذا لا يساعد الفرد في حياته الشخصية فحسب، بل يمكنه أيضًا من أداء دور أكثر بناءً في المجتمع واتخاذ قرارات تعود بالنفع على الجميع وتساهم في رفع القيم الإلهية. يريد القرآن الكريم للإنسان أن يكون كائنًا مفكرًا، ومسؤولًا، وتشاوريًا، ومتوكلًا، وهذه الصفات في النهاية تساعده على اتخاذ أفضل وأصوب القرارات في كل مرحلة من مراحل حياته، والسير دائمًا في طريق رضا الله.
يُحكى أن ملكًا واجه مشكلة عظيمة وبات يفكر في حلها، فكان ينام بقلق كل ليلة. فقال له وزيره الحكيم الذي كان ذا بصيرة وتدبير، ذات يوم: «يا صاحب الجلالة، متى ما واجهك أمرٌ صعب، فمن اللائق أن تستشير عقلك أولاً، وتتأمل جيدًا في عواقبه. ثم اطلب المشورة من الحكماء وأصحاب الخبرة، فرأي الجماعة خير من رأي الفرد. وبعد أن تتضح جوانب الأمر ويطمئن قلبك على قرار، فحينئذٍ توكل على خالق العالم، فهو خير الهادين.» عمل الملك بنصيحة وزيره. عقد اجتماعات عديدة مع علمائه ومستشاريه، ووزن كل جانب من جوانب المشكلة، ثم بقلب مطمئن وتوكل على الله، اتخذ قرارًا لم يحل مشكلته فحسب، بل جلب الرخاء والراحة لشعبه. ومنذ ذلك الحين، في كل أمر، كان الملك يتفكر أولاً، ثم يتشاور، وفي النهاية يتوكل على الله، ويقول: «الطريق الصحيح يكمن في هذه المبادئ الثلاثة، التي أرشدنا إليها القرآن الكريم.»