يقدم القرآن للشباب غاية إلهية، وإطارًا أخلاقيًا متينًا، وشعورًا بالانتماء إلى الأمة، مما يساعدهم على اكتشاف هويتهم الحقيقية والتغلب على تعقيدات العالم الحديث. وبتركيزه على التوحيد وتأمل الذات، يضع أساسًا لهوية مستقرة.
يعيش جيل الشباب اليوم في عالم سريع التغير، مشبع بالمعلومات والخيارات التي لا حصر لها. غالبًا ما تؤدي هذه الظروف، إلى جانب الضغوط الاجتماعية والمعايير المتغيرة ونقص القيم الثابتة، إلى أزمة هوية عميقة. يجد الشباب أنفسهم تائهين، يتصارعون مع أسئلة جوهرية: "من أنا؟" "ما هو مكاني في هذا العالم؟" و "ما هو الهدف من حياتي؟" في مثل هذه البيئة، يبرز القرآن الكريم كمنارة هادية، لا يقدم إجابات شاملة وجذرية فحسب، بل يوفر أيضًا أسسًا متينة لتشكيل هوية مستقرة وذات مغزى؛ هوية لا تتزعزع في خضم تقلبات العالم الحديث، بل تعمل كمرساة راسخة تمنع الضياع وانعدام الجذور. إحدى أهم مساهمات القرآن هي تعريفه "لهدف الحياة". في عالم اليوم، يسعى العديد من الشباب وراء أهداف عابرة ومادية، تتركهم بعد فترة بشعور من الفراغ وانعدام المعنى. يذكر القرآن صراحة أن الإنسان لم يُخلق لمجرد وجود مادي، بل لهدف أسمى وأكثر نبلًا. يقول تعالى في سورة الذاريات، الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه العبادة لا تقتصر على الشعائر الظاهرية فحسب، بل تشمل جميع جوانب الحياة؛ من كيفية التعامل مع الآخرين إلى السعي لتحقيق صلاح المجتمع. يساعد هذا المنظور الواسع للعبودية الشباب على توجيه جميع أنشطتهم نحو هدف إلهي ومتعالٍ. يمنح القرآن الإنسان مكانة سامية، حيث يقول في سورة البقرة، الآية 30: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". يغرس مقام "الخلافة" هذا، أو الاستخلاف في الأرض، في نفوس الشباب إحساسًا عميقًا بالمسؤولية والقدرة والهادفية يتجاوز الاحتياجات الفردية، ويوجههم نحو خدمة الخلق وعمارة الأرض. إن امتلاك هذا الهدف الإلهي والسامي ينقذ هوية الشاب من الارتباك وعدم الاستقرار، ويمنحها عمقًا ومعنى. فهم لم يعودوا يتشتتون أمام تقلبات البيئة، لأن مرساة هويتهم راسخة في شيء أبدي وثابت، مما يمنحهم شعوراً بقيمة ذاتية باقية. يقدم القرآن، بتأكيده على "التوحيد"، أو وحدانية الله، إطارًا عقائديًا متماسكًا ومتكاملًا. في عالم تتنافس فيه العديد من الأيديولوجيات والفلسفات لجذب عقول الشباب، وتقدم كل منها جزءًا من الحقيقة، يقف التوحيد كمصدر فريد لا مثيل له للحقيقة والقيم. يساعد هذا المفهوم الشباب على التحرر من التشتت الفكري والعقائدي، ويمكّنهم من إيجاد هوية مركزة ومتجذرة في حقيقة مطلقة. عندما يعتنق الشاب الإيمان بأن كل شيء ينبع من مصدر واحد ويعود إليه، يصبح منظوره للحياة والعلاقات والقيم واضحًا وموحدًا. هذه الوحدة في أصل الوجود تعني أيضًا الوحدة في المصير، وهذا بحد ذاته مريح ومحدد للهوية، لأنه يطمئنه بأنه يسير على الطريق الصحيح، وسيعود في نهاية المطاف إلى خالقه. علاوة على ذلك، يوفر القرآن "إطارًا أخلاقيًا وقيميًا" شاملًا وخالدًا، وهو ضروري لبناء هوية صحية وفعالة. في عالم أصبحت فيه القيم الأخلاقية نسبية ومتغيرة، وطمست فيه الحدود بين الخير والشر، يقدم القرآن للشباب بوصلة ثابتة وموثوقة. فمفاهيم مثل العدل، الصدق، الصبر، الإحسان إلى الوالدين، مساعدة المحتاجين، الصدق في القول، الوفاء بالعهود، والابتعاد عن الظلم والفساد، كلها أسس أخلاقية متينة في القرآن. يقول تعالى في سورة النحل، الآية 90: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ". إن الالتزام بهذه الأوامر يبني هوية الشاب على الفضائل الإنسانية والإلهية، مما يتيح له اتخاذ قرارات أخلاقية بثقة والحفاظ على أصالة ذاته وسلامتها عند مواجهة التحديات والضغوط الاجتماعية. يغرس هذا الإطار الثقة بالنفس في الشباب ويمنعهم من التقليد الأعمى للاتجاهات والمعايير المجتمعية المتغيرة، والتي قد تكون غير صحية في بعض الأحيان. يعد الشعور "بالانتماء إلى المجتمع (الأمة)" فائدة أخرى مهمة يمنحها القرآن للشباب. في عصر يشهد تزايد العزلة الاجتماعية والفردية المفرطة، حيث تؤدي شبكات التواصل الاجتماعي أحيانًا إلى مزيد من الوحدة بدلاً من الاتصال الحقيقي، يدعو القرآن الشباب إلى التضامن والوحدة من خلال التأكيد على مفهوم "الأمة الواحدة". يقول تعالى في سورة آل عمران، الآية 103: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا". يمنح هذا الشعور بالانتماء إلى مجتمع أكبر، مبني على القيم الإسلامية المشتركة، الشباب إحساسًا بالدعم والرفقة والأمان، ويخفف من شعورهم بالوحدة والضياع. لم يعودوا جزرًا منعزلة في محيط الحياة الواسع، بل جزءًا من جسد واحد عظيم يدعم بعضه بعضًا ويشارك في الأفراح والأتراح. تضيف هذه الروابط الروحية والاجتماعية طبقات مهمة إلى هوية الشاب، وتنجه من مشاعر الفراغ وانعدام الجذور، وتتيح له التقدم في النمو الفردي والجماعي. ويدعو القرآن الشباب أيضًا إلى "التأمل الذاتي والمسؤولية". تذكرنا الآية 18 من سورة الحشر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". تشجع هذه الآية الشباب على النظر إلى داخلهم، وتقييم أفعالهم، والتخطيط لمستقبل أفضل، بدلاً من لوم الآخرين أو الغرق في الأفكار السلبية واليأس. يعد هذا المنظور المستقبلي والمسؤولية عن أفعال الفرد جزءًا أساسيًا من تشكيل هوية ناضجة، مستقلة، وديناميكية تتيح للشباب صياغة مصيرهم بنشاط. علاوة على ذلك، يعلم القرآن الشباب "الصبر والأمل". عند مواجهة الصعوبات، النكسات، واليأس، والتي تعد جزءًا لا يتجزأ من الحياة، يمنحهم القرآن، بوعوده الإلهية وتذكيرهم بأن "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (سورة الشرح، الآيتان 5 و 6)، قوة المثابرة والمرونة. تساعد هذه التعاليم الشباب على عدم فقدان هويتهم في مواجهة تحديات الحياة، بل مواصلة طريقهم بالأمل في المستقبل والتوكل على الله. الهوية القوية هي هوية لا تنحني أمام الشدائد، ويوفر القرآن هذا الأساس المتين والروح التي لا تقهر. أخيرًا، يشدد القرآن على "طلب العلم والحكمة" بشدة. من خلال التشجيع على التفكير والتأمل ودراسة الآيات الإلهية وعلامات الخلق، يوجه القرآن الشباب نحو اكتساب المعرفة والبصيرة العميقة. يساعد هذا النهج العقلاني والعلمي الشباب على رؤية العالم بعقل منفتح وناقد، واكتشاف الحقائق، وتكوين هوية قائمة على الفهم والإدراك والبصيرة، بدلاً من التقليد الأعمى أو القبول السطحي للمعلومات. تزيد هذه المعرفة والحكمة من فهمهم لأنفسهم ومكانتهم في العالم، وتجعلهم صامدين أمام المغالطات والمعلومات المضللة والشكوك الفكرية، وتتيح لهم بناء هويتهم الفكرية بثقة. وبالنظر إلى هذه الأبعاد الشاملة، فإن القرآن لا يحل أزمة الهوية فحسب، بل يرسخ هوية إسلامية شاملة ومستقرة لجيل الشباب؛ هوية متجذرة في الإيمان بالله، وملتزمة بالقيم الأخلاقية والإلهية، ومتصلة بالمجتمع، ومسؤولة عن ذاتها ومستقبلها، ومليئة بالأمل في الفضل والرحمة الإلهية. تمنح هذه الهوية الشباب القدرة على ليس فقط إيجاد أنفسهم في عالم اليوم المعقد، بل ليصبحوا عناصر فاعلة، بناءة، ومؤثرة في المجتمع، وليشقوا طريقهم ببصيرة.
شاب مضطرب وباحث، على الرغم من عيشه في نعيم وترف، إلا أن قلبه كان قلقًا. ذات يوم، اقترب من رجل حكيم كبير السن على أطراف المدينة وتحدث عن حيرته في هويته. ابتسم الشيخ الحكيم بلطف وقال بنبرة دافئة: "يا بني، لا تظن أن هويتك تكمن في المظاهر الخارجية والممتلكات الدنيوية التي تأتي وتذهب كالريح. انظر إلى الشجرة! كلما تعمقت جذورها في الأرض، قلّت اهتزازها بفعل الرياح العاتية، وظلها كان أكثر استقرارًا. وهويتك أيضًا تكمن في جذور إيمانك وأخلاقك، التي أودعها الله في فطرتك. كلما اقتربت من المنبع الإلهي للنور والحقيقة، أصبح وجودك أكثر إشراقًا واستقرارًا، ولن تجذبك الأهواء العابرة والموضات الزائلة إلى كل اتجاه." بهذه النصيحة الحكيمة، وجد الشاب طريقه واستعاد السلام الداخلي، ليس في السعي الخارجي، بل في نفسه.