القرآن يمنح الحياة معنىً ويحرر من العبثية بتوضيح الغائية في الخلق، ومكانة الإنسان، والتأكيد على المعاد. كما أن ذكر الله وهدايات القرآن تجلب السكينة للقلوب.
إن الشعور بالعبثية وفراغ المعنى هو تحدٍ عميق يواجهه الكثير من الأفراد في العصر الحديث. في عالم مليء بالارتباكات والاضطرابات والأسئلة بلا إجابات، قد يبدو العثور على المعنى والهدف في الحياة أمرًا شاقًا. لكن القرآن الكريم، بصفته كلام الله، لا يقدم إجابات قاطعة لهذه الأسئلة فحسب، بل يوضح طريقًا واضحًا وشاملًا للتحرر من العبثية والوصول إلى السكينة والهدف الحقيقي في الحياة. فالقرآن، بتقديمه رؤية كونية كاملة ومتصلة بالمبدأ والمعاد، يحول الحياة من سلسلة من الأحداث العشوائية إلى رحلة ذات معنى وهدف نهائي. إحدى الطرق الأساسية التي يلغي بها القرآن العبثية هي توضيحه للغائية في الخلق. على عكس وجهات النظر العبثية التي تعتبر الكون نتيجة للصدفة وبدون خالق أو هدف، يعلن القرآن بوضوح أن الله خلق الكون وكل ما فيه بحكمة وهدف. تشير الآية 115 من سورة المؤمنون بوضوح: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟" (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟). هذه الآية تهدم أساس العبثية وتذكّر الإنسان بأن وجوده له معنى عميق وهدف نهائي. كما يحدد القرآن الهدف الأساسي لخلق الإنسان بعبادة الله، كما ورد في سورة الذاريات الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه العبادة ليست مجرد خضوع أعمى، بل هي فهم عميق واستسلام وارتباط روحي بالخالق، مما يؤدي إلى إدراك حقيقة الوجود وإيجاد مسار الحياة. إن فهم هذا الهدف يمنح حياة الإنسان إطارًا وتوجهًا إلهيًا ينقذه من الضياع والتيه. يعزز القرآن أيضًا كرامة الإنسان ومسؤوليته العظيمة من خلال تصوير مكانته كـ "خليفة الله" على الأرض. في سورة البقرة الآية 30، نقرأ أن الله قال للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". هذا المنصب يمنح الإنسان ليس فقط هدفًا شخصيًا، بل رسالة عالمية: إعمار الأرض، إقامة العدل، ونشر الخير والصلاح. هذه المسؤولية الثقيلة تمنع الشعور بالعبثية، لأن كل فرد يرى نفسه عضوًا فعالًا وواجبًا في خطة إلهية. العمل بهذه المسؤولية يعني عيش حياة نشطة، بناءة، وذات معنى تتجاوز الملذات الدنيوية الزائلة، وتغرس في الإنسان شعورًا بالقيمة والتأثير. بالإضافة إلى ذلك، يعمل القرآن ككتاب هداية ونور، يعلم الإنسان طريقة الحياة. في المواقف التي يواجه فيها الإنسان تحديات وشكوكًا وضلالات، تعمل آيات القرآن كبوصلة، تشير إلى المسار الصحيح. تشمل هذه الهداية المبادئ الأخلاقية، والعلاقات الاجتماعية، والحقوق الفردية والجماعية، وكيفية التعامل مع الصعوبات. الالتزام بهذه التوجيهات يمنح الإنسان إطارًا عمليًا للحياة، ويمنعه من اتخاذ قرارات عشوائية وعيش حياة بلا مبادئ. هذا المسار الواضح يمنع التيه الفكري والأخلاقي، ويمنح الحياة تماسكًا وتوجهًا. عندما يعلم الإنسان كيف يعيش وما هي الأهداف التي يسعى إليها، لا يبقى هناك مجال للعبثية. تتوج ذروة التحرر من العبثية في القرآن بالتركيز على الحياة بعد الموت ومفهوم المعاد. يذكّر القرآن الإنسان بأن هذه الحياة الدنيا هي مجرد مرحلة عابرة واختبار، وبعدها تنتظر حياة حقيقية أبدية. هذا المنظور يضفي على جميع أعمال الإنسان وجهوده في هذا العالم معنى أبديًا. فأعماله الصالحة ستكافأ، وأعماله السيئة ستكون لها عواقبها. هذا الإيمان ينقذ الإنسان من اليأس في مواجهة الصعوبات، ويمنحه دافعًا لا ينضب للسعي في طريق الخير. في سورة الزلزلة الآيتين 7 و 8، ورد: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ". هذا التعليم يجعل الإنسان يدرك أن لا عمل، حتى أصغره، هو بلا تأثير أو معنى، وأن كل فعل في هذه الدنيا سيكون له انعكاس في الآخرة. أخيرًا، إن ذكر الله تعالى والاتصال القلبي به، الذي يحث عليه القرآن بشدة، هو مصدر لا مثيل له للسكينة وإزالة العبثية. تقول الآية 28 من سورة الرعد: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). هذه السكينة الداخلية هي نتيجة الاتصال بمصدر القوة والحكمة، مما يؤكد للإنسان أنه حتى في أحلك اللحظات، ليس وحيدًا ولديه سند قوي. هذا الاتصال يعزز شعور الأمان والمعنى في داخل الإنسان وينقذه من الغرق في الأفكار العبثية. وهكذا، بتقديم رؤية عالمية هادفة، وتحديد مكانة الإنسان الرفيعة، وتقديم إرشادات عملية، والتأكيد على المعاد، وتوفير إمكانية الاتصال القلبي بالله، يحرر القرآن الإنسان بأشمل طريقة ممكنة من العبثية وفراغ المعنى، ويملأ حياته بالهدف والأمل والسكينة.
يروى أنه في العصور القديمة، كان هناك ملك ثري وقوي يملك كل ما يشتهيه. ومع ذلك، على الرغم من كل ممتلكاته، كان شعور دائم بالعبثية والفراغ يقلقه. في أحد الأيام، بينما كان يمر في السوق، رأى درويشًا، على الرغم من فقره الظاهر، كان مبتهجًا وهادئًا. سأل الملك بتعجب: "أيها الدرويش، أنت لا تملك شيئًا، فكيف تكون سعيدًا وخاليًا من الهموم هكذا، بينما أنا، مع كل هذه الثروة، في ضيق وقلق دائم؟" أجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: "أيها الملك! أنت تعد ما تعلم أنك تملكه وتشتهي ما لا تعلم أنك تملكه؛ ولهذا السبب تشعر دائمًا بالنقص. أما أنا، فلا أشتهي ما لا أملكه، وأعتبر ما أملكه كافيًا، فقد وكلت قلبي لخالق العالم، وهو الملك الحقيقي ورازق الجميع. لقد أعطاني هدفًا ودعاني إلى السلام. لذلك، أرى معنى في كل يوم ولا أخشى شيئًا." استوعب الملك كلمات الدرويش وفهم أن الثروة الحقيقية تكمن في رضا القلب والاتصال بمعنى أسمى، وليس في التراكم الدنيوي. وأدرك أن الملك الظاهري لا يجلب السلام إلا عندما يكون مصحوبًا بسلام القلب واتباع الحكمة الإلهية.