المسامحة في الإسلام تعني التخلي عن الحقد والغضب، وليس محو الذاكرة. هذا الفعل يؤدي إلى السلام الداخلي والمكافأة الإلهية، حتى لو بقيت ذكرى الحدث.
إن موضوع المسامحة، خاصة عندما تبقى الذاكرة المؤلمة لحدث ما عالقة في ذهن الإنسان، يمثل أحد التحديات الروحية والنفسية العميقة التي يواجهها الكثيرون. لقد تناول القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية هذا الأمر بمنظور حكيم وشامل للغاية. في الفهم القرآني، المسامحة أو ما يُعرف بـ 'العفو' و 'الصفح' لا يعني محو الحدث تمامًا من الذاكرة؛ بل يعني التخلي عن العبء الثقيل من الحقد، الغضب، والرغبة في الانتقام الذي يستقر في نفس الإنسان. هذا المنظور يتوافق تمامًا مع طبيعة الإنسان، حيث الذاكرة والتذكر جزء لا يتجزأ من وجوده. يعلم الله تعالى أن الإنسان قد لا ينسى الأحداث المؤلمة، ولكنه يطلب منه ألا يكون أسيرًا لهذه الذكريات المرة وألا يدع الماضي يدمر مستقبله وسلامه الحالي. يدعو القرآن الكريم المؤمنين مرارًا وتكرارًا إلى المسامحة والتجاوز. من أجمل الآيات في هذا الصدد هي الآية 22 من سورة النور التي تقول: «وَلْیَعْفُوا وَلْیَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغْفِرَ اللَّهُ لَکُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِیمٌ» (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). هذه الآية تقيم صلة عميقة وأساسية بين مسامحتنا للآخرين ومغفرة الله لنا. هذا دافع قوي جدًا؛ إذا كنا نطمح إلى رحمة الله ومغفرته، فيجب علينا أن نكون رحيمين ومتسامحين تجاه الآخرين أيضًا. هنا، لا يدور النقاش حول النسيان، بل حول التوقف عن اللوم، والعتاب، وطلب القصاص أو الانتقام. يمكن للإنسان أن يتذكر حدثًا ما، ولكنه يختار ألا يعيش بعد ذلك مع ذلك الشعور السلبي ورغبة الانتقام. كذلك في الآية 134 من سورة آل عمران، يصف الله تعالى صفات المتقين كالتالي: «وَالْکَاظِمِینَ الْغَیْظَ وَالْعَافِینَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ» (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). تُظهر هذه الآية أن المسامحة هي مرحلة تأتي بعد كظم الغيظ (السيطرة على الغضب). هذا يعني أنه يجب على الإنسان أولاً التغلب على المشاعر السلبية ومن ثم يكتسب القدرة على المسامحة. هذا يعني أنه حتى لو بقيت ذكرى مؤذية في الذهن وأثارت الغضب أحيانًا، فإن الإنسان بالتدريب والمجاهدة يمكنه السيطرة على ذلك الغضب ويتجاوز عن ذلك الشخص. هذا التجاوز ليس ضعفًا ولا نسيانًا، بل هو قمة القوة الروحية والإيمان. فوائد المسامحة، حتى في غياب النسيان، لا تُعد ولا تُحصى. من الناحية النفسية، فإن الاحتفاظ بالحقد والغضب يضر بالإنسان نفسه. هذه المشاعر السلبية أشبه بعبء ثقيل يرهق الروح والنفس ويحرمهما من متع الحياة والسلام الداخلي. بالمسامحة، يحرر الفرد نفسه في الواقع من قيود هذا السجن الداخلي. هذه التحرير لا يعني التقليل من شأن الظلم الذي وقع، بل يعني عدم السماح لذلك الظلم بالاستمرار في إيذاء الشخص داخليًا. قد تبقى الذاكرة لكي يستخلص الإنسان منها العبر ويتوخى الحذر في المستقبل، ولكن الألم والمعاناة الناجمة عنها يمكن أن تزول بالمسامحة. من الناحية الروحية، المسامحة هي عمل إحسان يحبه الله وقد وعد عليه أجرًا عظيمًا. عندما نسامح، فإننا في الحقيقة نقترب من النماذج الإلهية؛ لأن الله نفسه هو 'الغفور' (كثير الغفران) و 'الرحيم' (كثير الرحمة). يسعى المؤمن لإظهار الصفات الإلهية في ذاته، والمسامحة هي إحدى أبرز هذه الصفات. هذا العمل لا يساعد فقط في تقوية علاقة الإنسان بخالقه، بل يؤدي أيضًا إلى تطهير القلب وزيادة نور الروح. هذه العملية هي رحلة داخلية يواجه خلالها الفرد تحدياته العاطفية، ويديرها، وفي النهاية يصل إلى قمة الروحانية. لكي نتمكن من المسامحة، بينما لم ننسَ، يمكننا الأخذ بالخطوات التالية: 1. قبول الواقع: تقبل أن الذاكرة قد لا تزول أبدًا بالكامل، وهذا لا بأس به. الهدف هو تغيير علاقتك بهذه الذاكرة، وليس محوها. 2. التخلي عن الغضب: بدلًا من استنزاف طاقتك في تغذية الغضب والحقد، اتخذ قرارًا واعيًا بالتخلي عن هذه المشاعر. يمكنك القيام بذلك من خلال الدعاء، أو التأمل، أو التحدث إلى شخص موثوق به. 3. التركيز على الذات: افهم أن المسامحة هي في المقام الأول لمصلحتك أنت. أنت تسامح من أجل سلامك الروحي والنفسي، وليس بالضرورة من أجل الطرف الآخر. 4. استخلاص الدرس: استخدم التجربة كدرس في الحياة. ماذا تعلمت؟ كيف يمكنك منع تكرار مثل هذا الموقف في المستقبل؟ هذه الدروس يمكن أن تحول الذاكرة من مصدر ألم إلى مصدر حكمة. 5. التوكل على الله: اطلب مساعدة الله لتطهير قلبك من الحقد ومنحك القدرة على المسامحة. اعلم أنه أفضل معين ومرشد. 6. الدعاء للمُسيء (اختياري): في بعض الحالات، إذا تمكنت من الدعاء للشخص الذي آذاك، فقد تكون هذه خطوة كبيرة نحو التحرر الكامل، على الرغم من أنها ليست ضرورية للجميع. المسامحة لا تعني نسيان حقك أو التقليل من شأن الظلم، بل تعني تحرير نفسك من عبئه الثقيل. إنه عمل بطولي يؤدي إلى الصحة النفسية، والنمو الروحي، وعلاقة أعمق بالله. بالمسامحة، حتى مع وجود الذاكرة، نسمح للرحمة الإلهية أن تتدفق في قلوبنا ونحقق حياة مليئة بالسلام والبركة.
يُروى أن ملكًا عادلًا كان لديه خصم يحمل في قلبه الضغينة تجاهه لسنوات عديدة. ذات يوم، وقع هذا الخصم في قبضة الملك. فأجمع الجنود والوزراء على الملك قائلين: «الآن وقد وقع هذا العدو في يدك، استأصله لئلا يضرك أبدًا مرة أخرى.» ابتسم الملك وقال: «الشهامة والكرم يكمنان في التغاضي عن الأخطاء الماضية واختيار العفو بدلًا من الانتقام. إن إرثًا طيبًا من المغفرة خير من إرث مرير من الثأر.» فأطلق الملك سراح خصمه وتجاوز عن خطئه، دون أن يمحى ذلك الفعل من ذاكرته. عندما رأى الخصم هذا العفو، تحول تمامًا، ومنذ ذلك الحين لم يعد عدوًا فحسب، بل أصبح من أوفى أصحاب الملك، وكان يقول دائمًا: «لقد أخجلني هذا الملك بمسامحته وحررني من قيود الحقد التي صنعتها بنفسي. ذكرى ذلك اليوم لن تزول أبدًا من ذاكرتي، ولكن الآن هذه الذكرى مليئة بالامتنان والولاء، لا بالضغينة.» وهكذا، علمنا الملك أنه يمكن المرء أن يسامح، حتى لو لم يستطع أن ينسى؛ لأن الهدف من المسامحة هو التحرر من قيد المعاناة، لا محو التاريخ.