لمعرفة ما إذا كنت غير متعلق بالدنيا، راقب ما إذا كنت تفضل الآخرة على الدنيا، وتنفق المال بحق، وتحافظ على سلامك الداخلي وسط تقلبات الدنيا، وتعي باستمرار طبيعتها الزائلة. الأهم من ذلك، يجب أن تتفوق محبة الله على جميع الميول الدنيوية.
التعلق بالدنيا، أو ما يسمى بـ "حب الدنيا" في المصطلح الإسلامي، هو مفهوم عميق يتناوله القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية باستمرار. إنه يعني الانجذاب المفرط إلى المظاهر الفانية والزائلة للحياة الدنيوية، ووضعها في أولوية أعلى من الأهداف الأخروية ورضا الله تعالى. يتناول القرآن الكريم هذا الموضوع مراراً وتكراراً، ويقدم علامات وإشارات لتقييم مدى تعلق الإنسان بالدنيا. فهم هذه العلامات يساعدنا على تقييم ذواتنا وتوجيه مسار حياتنا نحو التوازن والقرب الإلهي. من أهم علامات عدم التعلق المفرط بالدنيا هو تقديم الآخرة على الدنيا. يوضح القرآن صراحة أن الحياة الدنيا ليست سوى لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، بينما الآخرة هي الأبقى والأفضل. المؤمن غير المتعلق بالدنيا، حتى في أوج نجاحاته الدنيوية، يجعل هدفه الأساسي هو كسب رضا الله وجمع الزاد للآخرة. في قراراته، يفضل العواقب الأخروية على المنافع الدنيوية العابرة. على سبيل المثال، لا يرضى بأن يدوس على إيمانه وتقواه لكسب مال غير مشروع، أو أن يظلم حقوق الآخرين لتحقيق منصب دنيوي. مثل هذا الشخص لا يضحي أبدًا بصلاته وعباداته من أجل مشاغل العمل أو الترفيه الدنيوي، لأنه يعلم أن "وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (الأعلى: 17). يتجلى هذا الترتيب للأولويات في جميع جوانب حياته، من العلاقات الاجتماعية والأسرية إلى الأنشطة الاقتصادية والسياسية، مما يمنعه من الغرق في أوحال الدنيا. العلامة الثانية هي النظرة الصحيحة إلى المال والثروة. يعتبر القرآن المال والأولاد "فتنة" و "زينة" الحياة الدنيا، وليس الهدف الأسمى. من لا يتعلق بالدنيا، يرى المال أمانة من الله يجب استخدامه في سبيل الله ولخدمة الخلق. فهو لا يحرص على جمعه ولا يبخل بإنفاقه. في الواقع، الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين هو من أبرز علامات التحرر من قيود الدنيا. يشجع القرآن المؤمنين على الإنفاق ويقول: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 261). مثل هذا الشخص لا يستسلم أبدًا للرغبة في التكاثر والترف، ويتجنب الإسراف والتبذير، لأن هدفه من كسب المال هو تلبية الاحتياجات المشروعة والمساهمة في تقدم المجتمع، وليس التنافس في المظاهر أو التخزين المفرط. المعيار الثالث هو الحفاظ على الهدوء أمام تقلبات الدنيا. الإنسان الذي لا يتعلق بالدنيا لا يصاب بالغرور والزهو عند الحصول على المال والمكانة، ولا يصيبه اليأس والقلق عند فقدانها. إنه يؤمن بالحقيقة القرآنية أن كل خير من الله وكل شر يحدث بإذنه. يقول القرآن: "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد: 23). هذه الآيات تصرح بأنه يجب علينا التحلي بالصبر على ما فاتنا وعدم الاغترار بما أنعم الله به علينا. من كان قلبه موصولًا بمبدأ الوجود، يعلم أن كل شيء فانٍ، وأن رضا الله هو الباقي. هذا الهدوء الداخلي هو نتيجة التحرر من قيود الأماني الدنيوية والاعتماد على القوة الإلهية التي لا تضاهى، مما يسمح له بمواصلة طريقه نحو الكمال بصبر وشكر أمام أقدار الله. العلامة الرابعة هي البصيرة في زوال الدنيا. يشير القرآن مرارًا وتكرارًا إلى الطبيعة الفانية والزائلة للدنيا، ويشبهها بالمطر الذي ينبت الزروع ثم تذبل. هذه البصيرة تخرج الإنسان من الغفلة وتدفعه للتفكير في تدبير الآخرة وجمع الزاد للرحلة الأبدية. من يعلم أن عمر الدنيا قصير، لا يهدر وقته في أعمال لا فائدة منها ولهو ولعب، بل يستغل لحظاته ويخطو في طريق الخير والصلاح. إنه يعلم أن "مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ" (النحل: 96). هذا الفهم العميق يمنع الفرد من التعلق بمظاهر الدنيا الخادعة ونسيان الهدف الأساسي من خلقه. يرى الدنيا مزرعة للآخرة ويسعى لزراعة أفضل محصول للعالم الآخر. أخيرًا، يعتبر تركيز المحبة الإلهية هو السبيل الأهم لمعرفة عدم التعلق بالدنيا. يقول القرآن الكريم في آية تحذيرية: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة: 24). هذه الآية توفر معيارًا واضحًا لقياس الحب الحقيقي. إذا زادت محبة الدنيا ومظاهرها (الأهل، المال، العمل، السكن) عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهذه علامة على التعلق الخطير. يجب على الإنسان دائمًا أن يحرر قلبه من قيود الدنيا ويجعل الله مركز محبته. هذا لا يعني تجاهل الأسرة والمال، بل يعني أن تكون كل محبة في إطار المحبة الإلهية وتحت لوائها. عدم التعلق بالدنيا لا يعني نفي الاستمتاع بالنعم الإلهية الحلال، بل يعني عدم الاستعباد لها وتذكر الهدف الأسمى دائمًا، وهو رضا وقرب رب العالمين. في النهاية، هذا الاستكشاف الذاتي والتقييم المستمر هو الطريق إلى قلب مطمئن وروح متحررة من قيود الدنيا الفانية.
يُروى في حكايات "گلستان" لسعدي أن ملكًا ثريًا كان يتفاخر دائمًا بعظمته وثروته. ذات يوم، قال بتكبر في حضرة حاشيته: "هل يوجد في هذا العالم من هو أغنى مني؟" فابتسم أحد الحكماء الحاضرين في المجلس وقال: "أيها الملك، أعرف درويشًا هو أغنى منك." سأل الملك بدهشة: "من هو وكيف؟" أجاب الحكيم: "هذا الدرويش جالس في زاوية، وقلبه متعلق فقط بالزاد الذي جمعه لآخرته. إنه راضٍ لأنه ليس لديه مال ليُحاسب عليه، ولا أحد يطلب منه شيئًا. بينما أنت قلق باستمرار على خزائنك وممتلكاتك وتخشى أن تفقدها. فمن تحرر من كل هذه التعلقات هو أغنى منك." تفكر الملك في هذه الكلمات وأدرك أن التحرر من التعلقات الدنيوية هو راحة وعطاء وثراء حقيقي لا يساويه أي ثروة.