كونك عبدًا للدنيا يعني تفضيل كل المكاسب الدنيوية على الأوامر الإلهية وإهمال الآخرة. من علامات ذلك سوء تحديد الأولويات، والجشع الذي لا يشبع، ونسيان الموت والبعث، وكلها مستنبطة من آيات القرآن.
على الرغم من أن عبارة "عبد للدنيا" لم تُذكر صراحة في القرآن، إلا أن آيات عديدة تتناول عواقب وعلامات التعلق المفرط بالحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة. يدعونا القرآن الكريم باستمرار إلى التوازن والاعتدال؛ فهو لا يذم الدنيا بالكامل ولا يسمح لها بأن تستحوذ على كيان الإنسان كله وتصرفه عن الهدف الأساسي من خلقه. لذلك، لكي نعرف ما إذا كنا قد أصبحنا أسرى للدنيا أم لا، يجب أن ننتبه إلى العلامات التي يعلمنا إياها القرآن. إن أول علامة، وربما أهمها، هي التفضيل غير الصحيح للأولويات. ففي سورة التوبة، الآية ٢٤، يقول الله تعالى بوضوح: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ". هذه الآية توضح بجلاء أنه إذا تقدم حب أي مظهر من مظاهر الدنيا (الأهل، الثروة، التجارة، المسكن) على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فإن هذا بحد ذاته علامة على العبودية للدنيا. قد يقصر الشخص الذي أصبح أسيرًا للدنيا في أداء واجباته الدينية مثل الصلاة والزكاة والحج من أجل كسب المزيد من المال، أو قد ينتهك حقوق الآخرين. قد يضحي بعلاقاته الأسرية والاجتماعية من أجل مصالح مالية، ويقدم الربح الدنيوي على رضا الله في قراراته. علامة أخرى هي الغفلة عن الآخرة ونسيان الموت والبعث. في سورة الحديد، الآية ٢٠، يصف الله طبيعة الحياة الدنيا على النحو التالي: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". الشخص الذي أسره الدنيا غالباً ما ينخرط في الألعاب والملذات العبثية للدنيا، ويخصص كل جهده لجمع الزينة والمفاخرة، ويغفل عن ذكر الموت والحساب. ينغمس في متع الدنيا الزائلة لدرجة أنه لا يعد زاداً لآخرته وحياته الأبدية. ينصب تركيزه فقط على الحاضر والاستفادة من الإمكانيات المادية، دون التفكير في الغد ويوم الحساب. يمكن أن تؤدي هذه الغفلة إلى ارتكاب الذنوب والسلوكيات غير الأخلاقية، لأن الإيمان بعواقب أعماله في الآخرة قد ضعف في نفسه. وعلاوة على ذلك، فإن الإفراط في الآمال والجشع الذي لا يشبع هو عرض آخر. يقول القرآن في سورة الأعلى، الآيتين ١٦ و ١٧: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى". فالشخص الأسير للدنيا لا يرضى أبداً بما لديه ويسعى باستمرار لزيادة ثروته ومكانته وشهرته. جشعه وطمعه لا حدود لهما، وهذا الطبع يبعده عن السكينة والقناعة. وقد يكون دائماً في قلق وتوتر من فقدان ممتلكاته أو عدم تحقيق آماله الدنيوية. يمنعه هذا القلق والجشع من شكر النعم الموجودة ويجعله يفكر باستمرار في نواقصه ومفتقداته، بدلاً من أن يقنع بما يمتلكه. بشكل عام، يمكن تلخيص علامات الاستعباد للدنيا في النقاط التالية: ١. تفضيل المصالح الدنيوية على الأوامر الإلهية وحقوق الآخرين. ٢. الغفلة عن ذكر الله والآخرة. ٣. الانشغال الدائم بجمع الثروة والمكانة، دون مراعاة الأهداف الروحية. ٤. الحسد، المنافسة غير الصحية، والتفاخر بالإنجازات المادية. ٥. انعدام السلام الداخلي والقلق المستمر الناتج عن الخوف من فقدان الممتلكات أو عدم تحقيق الرغبات. للتحرر من هذا الاستعباد، يقدم القرآن حلولاً: التذكير المستمر بالآخرة (كما في سورة الغاشية: "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿١٧﴾ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿١٨﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿١٩﴾ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿٢٠﴾ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾"), والإنفاق في سبيل الله (الذي يقلل التعلق بالمال)، والقناعة والشكر، والأهم من ذلك، تعزيز الإيمان والاتصال بالله من خلال الصلاة والذكر. من خلال الوعي الذاتي وإعادة تقييم الأولويات، يمكن للمرء أن يتحرر تدريجياً من قيود الدنيا ويعيش حياة متوازنة تشمل سعادة الدنيا وفلاح الآخرة.
يروى أن رجلاً، سعياً وراء المال والثروة، كان يعمل ليلاً ونهاراً، غافلاً عن ذكر الله وعن أسرته. كانت ثروته تزداد يوماً بعد يوم، لكن قلبه لم يجد السكينة. في أحد الأيام، التقى بحكيم وشكا إليه قلقه. فأخذه الحكيم إلى جانب نهر وقال: "انظر إلى هذا الماء الجاري. إذا شربت منه بقدر ما يروي عطشك فقط، فهو عذب ومفيد. ولكن إذا حاولت أن تجمع النهر كله في نفسك، فلن تروى عطشك فحسب، بل قد تُحرم أيضاً من الماء الحيوي وربما تغرق." أدرك الرجل أن جشعه للدنيا قد أبعده عن السلام والسعادة الحقيقية. ومنذ ذلك الحين، اتجه إلى الاعتدال، وأنفق جزءاً من ماله في سبيل الله، واستخدم الباقي لحياة حلال وطيبة، وسكن قلبه بذكر الله وشكره.