الآلام والمصاعب في الإسلام هي ابتلاءات إلهية، وكفارة للذنوب، ووسيلة للنمو الروحي والتقرب إلى الله، مما يؤدي إلى أجر عظيم. بالصبر والتوكل على الله، كل معاناة تثمر ولا تذهب سدى.
إن فهم حقيقة أن المعاناة والمشقات التي نمر بها في الحياة ليست عبثًا أو بلا معنى، يتطلب من منظور القرآن الكريم بصيرة عميقة وتوكلاً كاملاً على الحكمة الإلهية. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن هذه الحياة الدنيا هي ميدان الابتلاء والاختبار الإلهي، ولا يُستثنى أي مؤمن من هذه الابتلاءات. الآلام والمصائب جزء لا يتجزأ من القضاء الإلهي لنمو الإنسان ورفعته، وهي ليست أبدًا بلا هدف، بل تتبع مقاصد سامية، وفهمها يمنحنا الاطمئنان بأن لا معاناة في سبيل الله، ومع الصبر والتوكل، ستذهب بلا أجر أو مكافأة. أحد أهم الأسباب التي تجعل معاناتنا ليست بلا جدوى هو أن البلايا والمصائب تُعد محكًا للإيمان وصدق الإنسان. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 155: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. هذه الآية توضح بَيَانًا صريحًا أن الاختبارات الإلهية تكون على هيئة نقص ومصاعب. والهدف من هذه الاختبارات ليس مجرد إيلام الإنسان، بل هو تمييز الصادقين من المدَّعين الكاذبين. وكما جاء في سورة العنكبوت، الآيتان 2 و 3: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. عندما نصبر على الشدائد ولا نتخلى عن إيماننا، فإننا في الحقيقة نثبت صدق إيماننا، وهذا بحد ذاته هو أسمى ثمرة. وثمرة أخرى عظيمة للمعاناة هي تكفير الذنوب وتطهير روح الإنسان. في روايات عديدة عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن كل حزن، مرض، أو حتى شوكة تصيب المؤمن، فإن الله يكفر بها من خطاياه. هذا يعني أن كل ألم ومعاناة نتحمله، إذا كان بنية إرضاء الله ومع الصبر، فإنه كالمياه التي تغسل صدأ الذنوب من أرواحنا، وتجعلنا أكثر طهارة واستعدادًا للقاء الله. من هذا المنظور، فإن المعاناة ليست بلا جدوى فحسب، بل هي وسيلة للتطهير والتزكية الباطنية، وقيمتها تفوق أي مكسب دنيوي. بالإضافة إلى ذلك، فإن المعاناة أدوات للنمو الروحي والتقرب أكثر إلى الله. غالبًا ما يغفل الإنسان في أوقات الراحة والرخاء عن ذكر الله ويتعلق بالدنيا. ولكن عندما تحل الشدائد، يدرك الإنسان ضعفه وعجزه ويجد ملجأه الحقيقي في قوة الله اللانهائية. هنا، تخرج الأدعية من أعماق القلب، ويبلغ التوكل ذروته، وتصبح العلاقة مع الخالق أقوى. هذه التجربة التي تعمق العلاقة مع الله هي كنز قد لا يُكتسب إلا من خلال المرور بالصعوبات. تقول سورة الزمر، الآية 10: ﴿...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. هذا الأجر بلا حساب يدل على عظمة وكثرة أجر الصبر على المصيبة. فمعرفة أن كل لحظة صبر هي استثمار في الآخرة المثمرة، هو دليل قوي على أن المعاناة ليست بلا جدوى أبدًا. المعاناة تزيد من بصيرة الإنسان وحكمته. فتجربة الشدائد تغير نظرة الإنسان للحياة وتدفعه نحو فهم أعمق للواقع. فبالمرور بالمشاكل، يدرك الإنسان قيمة النعم أكثر، ويصبح أكثر صبرًا ولطفًا، ويبتعد عن الغطرسة والكبرياء. هذا النمو الشخصي والروحي هو من الثمار القيمة للمصاعب التي تحول حياة الإنسان الدنيوية والأخروية. وما يبدو لنا مصيبة اليوم، قد يكون في المستقبل القريب مفتاحًا لفتوحات عظيمة أو سببًا لتجنب شر أكبر. يقول القرآن في سورة البقرة، الآية 216: ﴿...وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. هذه الآية تدل على الحكمة الإلهية الخفية وراء قضايا الكون. العلامات التي تدل على أن معاناتك ليست بلا جدوى، يمكن ملاحظتها في داخلنا وخارجنا: إذا زاد توكلك بالله مع كل معاناة، وازداد صبرك، وصارت أدعيتك أكثر إخلاصًا، واقترب قلبك من الله، وتعلمت دروسًا حولتك إلى إنسان أفضل، فاعلم أن معاناتك قد أثمرت. وإذا انخفضت ذنوبك بعد تحمل الصعوبات وتبت من أخطاء الماضي، فهذا أيضًا دليل على إثمار معاناتك. كذلك، فإن رؤية الفتوحات والراحة التي تأتي بإذن الله بعد الشدائد، هي بحد ذاتها شهادة على أن "مع العسر يسرًا"، كما أكدت سورة الانشراح مرتين في الآيتين 5 و 6: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. هذه الآيات تبشر بحقيقة أن اليسر لا يأتي فقط بعد العسر، بل إن في قلب العسر نفسه تكمن راحة وفتوح خفية. لذلك، لكي تعلم أن معاناتك ليست بلا جدوى، يكفي أن تنظر إلى نيتك ورد فعلك تجاهها. إذا كانت مصحوبة بالصبر والتسليم لإرادة الله والأمل في ثوابه وحكمته، فلن تكون بلا ثمرة أبدًا. بل كل قطرة دمع تذرف من خشية الله، وكل ألم ومعاناة تتحمل بأمل فضله، سيُوضع في ميزان الأعمال الصالحة ويُضاف إلى ثمن سعادتك الأبدية في الآخرة. هذا الاعتقاد القلبي لا يخفف المعاناة فحسب، بل يحولها إلى سلم للصعود إلى مقامات روحية أعلى وجسر إلى الرضا والسلام الدائمين.
يُروى أن درويشًا متألمًا وكسير الفؤاد، لجأ يومًا إلى حكيم عالم من شدة أعباء الحياة. سأله الحكيم: «يا أخي، ما الذي أصابك حتى بدوت مضطربًا هكذا؟» تنهد الدرويش تنهيدة عميقة وقال: «لسنوات طويلة وأنا أصارع في قيود الألم والفقر، ولا أرى أي انفراج. أخشى أن تكون كل هذه المشقة بلا جدوى، وأن لا يبقى من عمري إلا الحسرة.» ابتسم الحكيم وقال بصوت هادئ ومريح: «يا صديقي، انظر إلى البذرة المدفونة تحت التراب. تبقى في الظلام وتحت الضغط، ولكن هل معاناتها بلا جدوى؟ أبدًا! فمن هذا الكفاح وهذا الضغط تنبت، وتتمدد جذورها، وفي النهاية تُخرج الفروع والأوراق وتُثمر ثمارًا حلوة. لو أن تلك البذرة هربت من معاناة التربة، لما تحولت أبدًا إلى شجرة قوية. أنت أيضًا مثل تلك البذرة. معاناتك اليوم هي بذور ازدهارك في الغد. إذا تحملتها بصبر وأمل، فلن تذهب أبدًا سدى. فربما خبأ الله لك وراء ستار هذه الصعوبات فرجًا عظيمًا ونِعمًا لا تُعد ولا تحصى، لن تصل إليها إلا بعبورك هذا الممر الضيق. فاصبر، فالصبر مفتاح كنز السكينة، ومن يصبر يُحسن عاقبته.» اطمأن الدرويش لكلام الحكيم، وأدرك أن آلامه هي مقدمة للانفراجات والبركات الإلهية، وأن لا جهد في سبيل الله يذهب هباءً، وأن نهاية كل ليل مظلم فجر مشرق.