القرآن مرآة تعكس الفطرة الإلهية للإنسان، ومسؤولياته، وحالته الأخلاقية، وعلاقاته. بالتأمل فيه والعمل بتعاليمه، يمكن للمرء أن يعرف ذاته الحقيقية ويزكي نفسه.
إن رؤية النفس في مرآة القرآن هي استعارة عميقة وذات مغزى، تعني معرفة الذات بناءً على التعاليم والقيم الإلهية لهذا الكتاب السماوي. القرآن الكريم ليس مجرد كتاب تشريعي؛ بل هو دليل شامل للحياة، مرآة صافية تعكس وجود الإنسان بجميع أبعاده – من فطرته وهدف خلقه إلى مسؤولياته، نقاط قوته وضعفه، ومصيره الأبدي. هذا المنظور للقرآن يقدم فرصة لا مثيل لها للتأمل الذاتي، التزكية، والوصول إلى الذات الحقيقية والمثالية التي قدرها الله للإنسان. الجانب الأول الذي يكشفه القرآن في مرآته لنا هو فطرتنا الإلهية وطبيعتنا النقية. يؤكد القرآن أن الإنسان خلق بفطرة سليمة، فطرة تدفعه نحو التوحيد والخير والحقيقة. في هذه المرآة، نرى أنفسنا لسنا كائنات عشوائية، بل خلفاء لله على الأرض، مكلفين بأهداف نبيلة مثل عبادة الله ومعرفته وتعمير الأرض. الآية 56 من سورة الذاريات، التي تقول: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، توضح بوضوح الهدف الأسمى من وجودنا. رؤية النفس من هذا المنظور تعني فهم موقعنا المرموق والمسؤول في الكون. تذكرنا هذه المرآة بأن داخل كل واحد منا بذرة من الخير ورغبة في الكمال، يمكن أن تتحول، بالتربية القرآنية، إلى شجرة باسقة. الصورة الثانية التي تقدمها مرآة القرآن هي بُعد مسؤولية الإنسان وحريته في الاختيار. يشدد القرآن بقوة على حرية الإرادة البشرية في اختيار طريق الحق أو الباطل. في هذه المرآة، نرى أنفسنا كائنات حرة الإرادة تتخذ القرارات والخيارات باستمرار، وتتحمل مسؤولية أفعالها. الآية 14 من سورة القيامة، التي تقول: "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"، تشير إلى أن الإنسان هو خير شاهد على أفعاله ونواياه، حتى لو حاول التماس الأعذار. تدعونا هذه المرآة إلى محاسبة النفس ومراجعة صادقة لسلوكنا. عندما ننظر في هذه المرآة، لا تظهر أفعالنا الظاهرة فحسب، بل تظهر أيضًا أفكارنا ونوايانا الداخلية؛ وهنا نفهم أن حتى نية سيئة أو فكر غير نقي ينبع من داخلنا ويحتاج إلى تصحيح. تدفعنا هذه الصورة نحو معرفة ذاتية أعمق وتنمية ذاتية هادفة. الوجه الثالث الذي ينعكس في هذه المرآة الإلهية هو حالتنا الأخلاقية والروحية. لا يحدد القرآن المعايير الأخلاقية فحسب، بل يصف بالتفصيل سمات المتقين، المحسنين، الصابرين، الشاكرين، المتوكلين، وهكذا. عندما ننظر في هذه المرآة، يمكننا أن نرى مدى قربنا أو بعدنا عن هذه الأوصاف. تعبر الآيات 7 إلى 10 من سورة الشمس عن هذه النقطة بجمال: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾" (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). تظهر هذه الآيات أن الله قد أعطى الإنسان القدرة على تمييز الخير والشر، وأن الفلاح يعتمد على تزكية النفس. في هذا الصدد، لا تكشف مرآة القرآن فقط عن العيوب الأخلاقية مثل الكبر، الحسد، الحقد، والبخل، بل تقدم أيضًا حلولاً عملية للتغلب عليها وتنمية الفضائل الأخلاقية. تعلمنا هذه المرآة أن سعادة وشقاء كل فرد يعتمد، أكثر من أي شيء آخر، على جودة علاقته بنفسه وكيفية رعايتها. الصورة الرابعة التي يظهرها لنا القرآن هي حالة علاقتنا بالله وبالبشر الآخرين. تخبرنا هذه المرآة ما إذا كان قلبنا مملوءًا بالتوحيد والتوكل على الله، أم غارقًا في الشرك والاعتماد على غيره؟ هل نراعي حقوق الناس ونتعامل معهم بإحسان وعدل؟ هل نتحلى بالصبر عند مواجهة المصائب ونكون شاكرين للنعم؟ يحتوي القرآن على آيات حول حقوق الوالدين، الجيران، الأيتام، والمساكين، وهي بمثابة مرآة كاملة لقياس مدى إحساننا ومسؤوليتنا الاجتماعية. بالنظر إلى هذه الآيات، نكتشف ما إذا كان حب الدنيا ومظاهرها قد جعلنا نغفل عن الله والآخرة أم لا. هذه المرآة لا تكشف فقط عن أوجه قصورنا فيما يتعلق بالخالق والمخلوق، بل توضح لنا أيضًا طرقًا عملية لتحسين هذه العلاقات؛ من الدعاء والاستغفار إلى مساعدة المحتاجين ومسامحة الآخرين. تقدم هذه الرؤية للذات منظورًا أكثر شمولاً وإنسانية لوجودنا. لرؤية النفس في مرآة القرآن، يجب اتخاذ خطوات عملية: أولاً، تلاوة وتدبر الآيات. مجرد القراءة دون فهم وتأمل يشبه النظر في مرآة مغبرة. يجب الاقتراب من الآيات بقلب وعقل مفتوحين وتطبيق رسائلها في الحياة. ثانيًا، محاسبة النفس والتأمل الذاتي المستمر. بعد كل عمل وفي نهاية كل يوم، يجب على المرء أن يقيم نفسه وفقًا للمعايير القرآنية ويحدد نقاط القوة والضعف. ثالثًا، العمل بالتعاليم. القرآن ليس مجرد للمعرفة، بل للعمل به. كلما طبقنا توصية من القرآن، فكأننا نرى صورة أجمل وأكمل لأنفسنا في مرآته. ورابعًا، الاستغفار والتوبة. عندما تظهر عيوبنا في مرآة القرآن، يجب أن نعود إلى الله بالتوبة والاستغفار ونطلب منه العون ليساعدنا في مسار التزكية والنمو. في النهاية، لا تظهر لنا مرآة القرآن فقط صورة لما نحن عليه الآن، بل تظهر لنا صورة لما يمكن أن نكون عليه؛ صورة لإنسان متعالٍ، ملتزم، وفي سلام مع نفسه وخالقه. هذه المرآة هي دليلنا في رحلة داخلية نحو القرب الإلهي والسعادة الأبدية. كلما نظرنا إلى القرآن بنية خالصة، انزاحت طبقة من الحجب، وجعلتنا أقرب إلى ذاتنا الحقيقية، لكي نصبح، في ضوء الهداية الإلهية، أفضل نسخة من وجودنا.
يقال إن ملكًا عادلاً كانت عادته، كل ليلة قبل النوم، أن يضع مرآة كبيرة أمامه وينظر فيها. فقال له وزير: "يا سيدي، ما حاجتك لهذه المرآة؟ وجهك الحسن ظاهر للجميع." ابتسم الملك وقال: "يا وزير، هذه المرآة ليست لرؤية الظاهر، بل للنظر إلى الداخل. كل يوم أسعى لأجعل أفعالي وأقوالي نقية وخالية من العيوب، حتى عندما أنظر في هذه المرآة، لا أرى قبحًا ولا غبارًا على وجه ضميري. هذه المرآة تذكرني بأن أجعل نفسي أفضل مما أنا عليه، في كل لحظة." هذه الحكاية التي على غرار سعدي تعلمنا أن المرآة الحقيقية لرؤية أنفسنا هي جوهرنا وأفعالنا، وليس مجرد مظهرنا الخارجي.