القرآن، بتأكيده على الاعتدال، القناعة، الشكر، وتجنب الإسراف، يساعدنا على التمييز بين الاحتياجات الأساسية والرغبات اللامحدودة، موجهًا إيانا نحو حياة متوازنة.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله، لا يستخدم مصطلحي «الرغبات» و«الاحتياجات» بمعناهما المعاصر بشكل مباشر للتمييز الدقيق بينهما. ومع ذلك، فإنه من خلال المبادئ والتوجيهات الشاملة والعميقة التي يقدمها في آياته، يوفر إرشادات لا مثيل لها لفهم هذا التمييز الأساسي في الحياة الفردية والاجتماعية. فمن خلال التركيز على مفاهيم مثل الاعتدال، والشكر، والقناعة، وتجنب الإسراف والتبذير، وإعطاء الأولوية للآخرة على الدنيا، يساعد هذا الكتاب السماوي الإنسان على إدراك صحيح لما هو ضروري حقًا لبقائه وصحته وسعادته (الاحتياجات)، في مقابل ما هو مجرد رغبات نفسية وكماليات (الرغبات). هذا التمييز لا يؤدي فقط إلى السلام الروحي، بل يساعد أيضًا في الإدارة السليمة للموارد والثروات على المستويين الفردي والمجتمعي، ويمنع العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الإفراط في الرغبات. من أهم المبادئ التي يطرحها القرآن للتمييز بين الرغبة والحاجة هو مبدأ «الاعتدال» أو «الوسطية». في سورة الفرقان، الآية 67، نقرأ: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا»؛ أي: «والذين إذا أنفقوا لم يتجاوزوا الحد في الإسراف، ولم يضيقوا في الإنفاق، وكان إنفاقهم بين ذلك اعتدالًا». هذه الآية توضح بجلاء أن الطريق الصحيح في الحياة هو تجنب الإفراط والتفريط. فالإسراف يعبر عن تلبية الرغبات اللامحدودة التي تتجاوز الحاجة، بينما البخل هو التقصير حتى في توفير الاحتياجات الأساسية. فالقرآن يوجه المؤمنين نحو الطريق الوسط؛ طريق تلبى فيه الاحتياجات الحقيقية، لكن لا مكان فيه للزيادة والتبذير. هذا المبدأ ينطبق ليس فقط على الأمور المالية بل على جوانب الحياة الأخرى أيضًا. على سبيل المثال، في الأكل والشرب، يقول القرآن: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (سورة الأعراف، الآية 31). هذا الأمر يدل على ضرورة تلبية الاحتياجات الجسدية (الأكل والشرب)، ولكنه مع تحذير صريح من الإسراف، يعلمنا أن الرغبات التي تتجاوز حدود الحاجة غير مرغوبة وضارة. كما يلعب القرآن دورًا مهمًا في التحكم في الرغبات من خلال التأكيد على مفهومي «القناعة» و«الشكر». فالقناعة تعني الرضا بما هو موجود والاكتفاء بما هو ضروري، في مقابل الطمع والجشع للحصول على أكثر من الحاجة. عندما يكون الإنسان قانعًا بقلبه وشاكرًا لنعم الله، تتضاءل رغباته النفسية للحصول على رغبات لا نهاية لها. الشكر يغير نظرة الإنسان إلى ما يملك بشكل إيجابي ويمنعه من التركيز على ما يفتقر إليه والتحسر على الرغبات التي لم تتحقق. هذا النهج يمنحه السلام ويحرره من الوقوع في فخ الترف والمنافسات الدنيوية اللانهائية. فالقرآن يذكر الإنسان مرارًا بأن الدنيا دار ممر والهدف الرئيسي هو الآخرة. في سورة القصص، الآية 77، يقول: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». هذه الآية تقدم صورة متوازنة للحياة: السعي للآخرة يجب أن يكون الهدف الرئيسي، ولكن نصيب الإنسان من الدنيا لا ينبغي أن يُنسى. هذا «النصيب من الدنيا» يعني بشكل أساسي تلبية الاحتياجات المشروعة والاستفادة الصحيحة من النعم، لا الانغماس في الرغبات المادية ونسيان الهدف الأساسي للخلق. أما تجنب «التبذير» و«الإسراف» الذي ورد صراحة في سورة الإسراء، الآية 27: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا»، فيُظهر لنا أن إهدار الموارد وصرفها في أمور لا فائدة منها وغير ضرورية هو فعل شيطاني. هذه الآيات تتناول مباشرة التمييز بين الاحتياجات الحقيقية والرغبات غير الضرورية. فالاحتياجات مشروعة بل وضرورية، أما الرغبات التي تؤدي إلى الإسراف والتبذير فهي ليست فقط مذمومة بل تعتبر من أعمال الشيطان. فالقرآن يحذر المؤمنين من أن التعلق المفرط بالمال والأولاد قد يكون فتنة لهم ويصرفهم عن طريق الحق. في سورة التغابن الآية 15 يقول: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ». هذه الآيات تساعد الإنسان على فهم القيم الحقيقية للحياة ويدرك أن الثروة والأولاد، وإن كانت نعمًا، لا ينبغي أن تتحول إلى أصنام تنسيه احتياجاته الروحية وأهدافه الأساسية. باختصار، القرآن، من خلال مبادئ الاعتدال في الاستهلاك، والشكر على النعم، والقناعة، والتجنب الشديد للإسراف والتبذير، والتأكيد على أولوية الآخرة على الدنيا، يعلم المؤمنين كيفية التفريق بين الرغبات والاحتياجات. هذه التوجيهات لا تساعد الفرد فقط في عيش حياة هادئة ومتوازنة، بل تمهد الطريق لبناء مجتمع عادل وتجنب المنافسات المادية المدمرة. فهدف القرآن هو تحرير الإنسان من قيود الرغبات النفسية اللانهائية والسير نحو الحرية الحقيقية والسعادة الأبدية، سعادة تتحقق بتلبية الاحتياجات الحقيقية والتركيز على الأبعاد الروحية للحياة، وليس بالتراكم اللانهائي للرغبات والشهوات الدنيوية.
يُروى أن رجلًا ثريًا، كان دائم الشكوى، ذهب إلى حكيم شاكيًا قلقه الدائم وعدم رضاه. سأله الحكيم: «هل رأيت يومًا كيف يقضي أفقر الناس أيامهم بالقناعة؟» أجاب الرجل الثري: «لا، لقد كنت دائمًا أسعى للمزيد.» ابتسم الحكيم وقال: «يقول سعدي: 'كلما زاد البناء بالطوب والطين والماء، كلما ضاقت المساحة'. هذه الحكاية تشير إلى أنه كلما سعى الإنسان وراء رغبات دنيوية أكثر، كلما ضاق صدره وقل سلامه. أما من يقنع باحتياجاته ويكون شاكرًا، فإن قلبه يتسع وروحه تمتلئ بالسلام. وهذا هو الفرق الذي يعلمنا إياه القرآن: إهمال الاحتياجات الأساسية خطأ؛ لكن الانغماس في الرغبات اللامحدودة يخلق الألم والمعاناة.