يدعو القرآن الكريم، بنظرته الشاملة، الإنسان إلى تغذية متوازنة للجسد والروح. بينما يؤكد على الأكل الحلال والطيب والاعتدال الجسدي، فإنه يركز بشكل أساسي على التغذية الروحية من خلال الذكر والصلاة والقرآن والصيام والأعمال الصالحة لتحقيق السكينة والكمال.
القرآن الكريم، وهو كتاب الهداية والدليل الكامل لحياة البشر، يدعو الإنسان دائمًا إلى أسلوب حياة متوازن وشامل، يعتني فيه بالاحتياجات الجسدية والروحية على حد سواء. الإسلام، على عكس بعض المدارس الفكرية التي تفصل بين الجسد والروح أو تفضل أحدهما على الآخر، ينظر إلى الإنسان نظرة شاملة ومتكاملة. فالإنسان في المنظور القرآني هو مزيج من الجسد والروح، وكلاهما يحتاج إلى التغذية والرعاية الصحيحة لتحقيق الكمال والسعادة. من ناحية، يؤكد القرآن بشدة على أهمية التغذية الجسدية السليمة والحلال. تشير آيات عديدة إلى حِلِّيَّةِ و طيِّبِ الرزق، وتدعو الناس إلى الاستفادة من نعم الله الطاهرة. يقول الله تعالى بوضوح في القرآن: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» (البقرة: 168). هذه الآية لا تؤكد فقط على حِلِّيَّةِ الرزق، بل تطرح أيضًا صفة «طيِّب» أي الطاهر والمستساغ، والذي يشمل أن يكون صحيًا ومفيدًا ومقبولاً. هذه التغذية الجسدية تُعَدُّ أساسًا لصحة وقوة البدن، لتمكين الإنسان من أداء واجباته العبادية والاجتماعية على أكمل وجه. كما ينهى القرآن عن الإسراف والتجاوز في الأكل والشرب: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف: 31). هذا المبدأ الاعتدالي ليس حيويًا لصحة الجسد فحسب، بل للتحكم بالنفس وتجنب الغفلة أيضًا. الهدف من العناية بالجسد ليس مجرد المتعة، بل الحفاظ على الأداة التي من خلالها تعمل الروح في هذا العالم وتنمو. فالجسم السليم هو بيئة مناسبة لروح سليمة ونشطة. من ناحية أخرى، وبتأكيد أكبر في الواقع، يؤكد القرآن على التغذية الروحية التي تحظى بأهمية أعلى، لأنها تروي روح وقلب الإنسان وتقوده نحو الكمال الحقيقي. تتحقق التغذية الروحية في القرآن من خلال عدة قنوات رئيسية: 1. الذكر وذكر الله: أحد الأشكال الأساسية للتغذية الروحية هو ذكر الله الدائم. يقول القرآن: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد: 28). ذكر الله يجلب الطمأنينة للقلوب ويحرر الإنسان من القلق والهموم الدنيوية. الذكر يجلب حضور الله الدائم في الحياة ويمنع الغفلة. 2. الصلاة والعبادة: الصلاة عماد الدين ومعراج المؤمن. هذا الاتصال المباشر مع الخالق يصقل روح الإنسان ويطهرها من الشوائب. يؤكد القرآن صراحة على إقامة الصلاة، ويعتبرها مصدرًا للطمأنينة والهداية. الصلاة ليست مجرد حركات جسدية، بل هي حوار عميق مع الرب يغذي الروح ويذكرها بهدف الحياة. 3. تلاوة القرآن وتدبره: القرآن نفسه مصدر عظيم للتغذية الروحية. يقول الله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ» (الإسراء: 82). تلاوة آيات القرآن، والتدبر في معانيها، والعمل بأوامرها، يضيء القلب، وينبه العقل، ويملأ الروح بنور إلهي. القرآن نور وشفاء وهداية لتحقيق البصيرة الروحية. 4. الصيام: الصيام ليس مجرد امتياز جسدي، بل هو في المقام الأول عبادة روحية وتربوية. يوضح القرآن أن هدف الصيام هو «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183)، أي تحقيق التقوى. الصيام يكبح النفس، ويقوي الإرادة، ويوقظ حس التعاطف مع المحتاجين، ويقرب الإنسان من معرفة الذات والتوجه نحو الله. 5. الإنفاق ومساعدة المحتاجين: العطاء والكرم، بالإضافة إلى آثارهما الاجتماعية، لهما تأثير عميق على روح وقلب الإنسان. الإنفاق يحرر روح الإنسان من البخل والتعلقات المادية ويرشده نحو القيم الأسمى. هذا العمل هو نوع من تزكية النفس وتغذية روح العطاء. 6. الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة: الالتزام بالفضائل الأخلاقية مثل الصدق، والعدل، والصبر، والإحسان، والابتعاد عن الرذائل الأخلاقية، يؤدي إلى تزكية النفس والنمو الروحي. يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا الناس إلى أداء الأعمال الصالحة والتزين بالأخلاق الحسنة، لأنها تؤدي إلى القرب من الله ورضوانه. العلاقة بين التغذية الجسدية والروحية في القرآن عميقة جدًا. فالجسد هو الأداة التي تستخدمها الروح لأداء الأعمال الصالحة والعبادات. وجسد سليم وقوي لديه قدرة أكبر على العبادة والخدمة. ومن ناحية أخرى، فإن الروح النقية والمطمئنة توجه الجسد نحو الحلال والطيب وتمنعه من المحرمات. كلاهما يكمل الآخر؛ فلا يمكن ترك الجسد تمامًا، ولا يمكن الوصول إلى الكمال دون تغذية الروح. يهدف القرآن إلى تنشئة الإنسان الكامل الذي يكون قويًا جسديًا ورفيعًا روحيًا، ليتمكن من عيش حياة مزدهرة ومنتجة في الدنيا وجمع الزاد لآخرته. يعلمنا القرآن أن نتذكر دائمًا أن الحياة الدنيا جسر إلى الآخرة، وأن الصحة الجسدية يجب أن تخدم الكمال الروحي. هذا المنظور الشامل يجعل الحياة ذات معنى وهدف، ويحرر الإنسان من السطحية والانشغال بالظواهر فقط.
يُحكى أن رجلاً تقيًا كان يعيش في مدينة شيراز، كان جسمه نحيلًا وضعيفًا، لكنه كان يتمتع بقلبٍ منير وروحٍ سامية. كان يعيش كل يوم على أقل ما يتوفر له من طعام، ويقضي معظم وقته في العبادة وذكر الله والتأمل في الآيات الإلهية. وفي نفس المدينة، كان هناك ملك يتمتع بكل أنواع النعم والأطعمة اللذيذة، وكان ذا جسم سمين وقوي، لكن قلبه كان مضطربًا دائمًا وعقله مشوشًا. ذات يوم، كان الملك يتجول في حديقته ويشتكي من اضطرابه الداخلي. فقال أحد حاشيته: «يا مولاي، في حيٍّ معين من شيراز، يوجد درويش جسده ضعيف، لكن روحه سعيدة وهادئة. ربما لديه دواء لمرضك.» ذهب الملك إلى ذلك الرجل التقي وسأله: «أنا مع كل هذه النعم والقدرات، لماذا قلبي ليس مرتاحًا، وكيف أنت، بجسدك الضعيف هذا، سعيد وهادئ إلى هذا الحد؟» ابتسم الرجل التقي وقال: «يا مولاي، أنت تأكل طعام الجسد كل يوم وقد نسيت روحك. أما أنا فأعطي جسدي ما يحتاجه فقط، وأروي روحي بذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن والأعمال الصالحة. الجسد هو مطية الروح، وإذا سمنت المطية إلى ما لا نهاية وتركت الراكب، فإنه سيتأخر عن الوصول إلى وجهته. صحة الجسد هي من أجل صحة الروح لكي تتمكن الروح من التحليق نحو الكمال. هدوئي يأتي من غذاء الروح الذي لا يبلى أبدًا.» أخذ الملك العبرة من هذا القول، ومنذ ذلك الحين، بجانب غذاء الجسد، اهتم أيضًا بتغذية روحه، وهكذا تذوق طعم السلام الحقيقي.