القرآن يعيد تعريف الحرية الفردية ليس كتحرر مطلق، بل كاختيار مسؤول ضمن الهداية الإلهية. هذه الحرية الحقيقية تحرر المرء من أسر النفس والدنيا، وتقود إلى القرب الإلهي والسكينة الحقيقية.
الحرية الفردية، مفهوم تم تفسيره بطرق مختلفة عبر تاريخ البشرية. في النظرة العالمية الغربية الحديثة، غالبًا ما تُفهم الحرية على أنها التحرر من أي قيود خارجية والحق غير المحدود للفرد في فعل ما يشاء، طالما أنه لا يضر بحرية الآخرين. لكن القرآن الكريم يقدم فهمًا أعمق وأشمل للحرية الفردية لا يختلف عن هذا التعريف فحسب، بل يعيد تعريفه ويرتقي به إلى مستوى أسمى. في منظور القرآن، الحرية الحقيقية ليست في التحرر من القوانين الإلهية، بل في قبولها وطاعتها بوعي. هذا تناقض ظاهري يتحول، بالتأمل في الحكمة الإلهية، إلى حقيقة واضحة. يؤكد القرآن بشدة على عنصر "الاختيار" والإرادة الحرة للإنسان. يذكر الله في آيات متعددة أن الإنسان كائن مخيّر وقد بين له طريق الخير والشر. هذه الحرية في الاختيار هي حجر الزاوية في مسؤولية الإنسان. على سبيل المثال، في سورة الكهف الآية 29 يقول تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ" هذه الآية تظهر بوضوح أن الإنسان في مسار الإيمان أو الكفر، يتمتع بحرية كاملة، ولكن هذه الحرية مصحوبة بمسؤولية جسيمة. هذه الحرية لا تعني التحرر من عواقب الاختيار، بل تعني حق اختيار المسار وتحمل نتائجه. هذا المفهوم من الحرية يخرج الإنسان من الجبرية البحتة ويحوله إلى كائن ذي كرامة ومختار. هذه الكرامة تنبع من أن الله قد منح الإنسان القدرة على التمييز واتخاذ القرارات، مما يمكنه من اختيار مسار حياته بناءً على العقل والوجدان، وفي النهاية، الهداية الإلهية. هذه القدرة على الاختيار تميزه عن سائر المخلوقات وتضع على عاتقه أمانة عظيمة، ألا وهي مسؤولية أفعاله. لكن هذه الحرية في الاختيار تجد معناها ضمن إطار الهداية الإلهية. لا ينظر القرآن إلى الشريعة والقوانين الإلهية كقيود تحد من الحرية، بل يراها مسارًا يحرر الإنسان من العبوديات الداخلية والخارجية. الإنسان الحر من منظور القرآن ليس من يفعل ما يشتهي، بل هو من حرر نفسه من عبودية النفس الأمارة، والشهوات، والمخاوف، والطمع، وعبودية المخلوقات. هذا التحرر الداخلي هو الحرية الحقيقية التي تتحقق من خلال العبودية الخالصة والواعية لله تعالى. عندما يرى الإنسان نفسه عبدًا لله وحده، يتحرر من عبودية كل شيء آخر. لا يخشى بعد ذلك تأييد الناس، ولا يستعبده المال والجاه، ولا يخاف الموت. هذه هي "الحرية الروحية". في سورة الذاريات الآية 56 نقرأ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه العبادة ليست عبودية مهينة، بل هي عبودية واعية تؤدي إلى أوج الحرية والكمال. فبالاتصال بمصدر الوجود والقوة الإلهية اللامتناهية، يمكن للإنسان أن يتحرر من نقاط ضعفه وقيوده. هذه العبودية هي شكل من أشكال التحرر الحقيقي، حيث تخلص الفرد من أغلال كل ما هو فاني وتصله بمصدر القوة والعزة الذي لا ينضب. ترتبط الحرية الفردية في القرآن بـ"المسؤولية الاجتماعية" أيضًا. فالإنسان ليس حرًا في أن يتجه إلى أي اتجاه، بل هو مسؤول عن أفعاله أمام الله والمجتمع. يجب ألا تضر حريته بحرية الآخرين أو تؤدي إلى فساد المجتمع. هذه المسؤولية هي بعد آخر للحرية الحقيقية؛ فالإنسان المسؤول هو في الواقع سيد نفسه ويعمل بناءً على مبادئ وقيم أسمى بدلًا من العمل بناءً على الرغبات اللحظية. الحرية في القرآن ليست رخصة للفوضى، بل هي إطار للنمو والارتقاء الفردي والاجتماعي. يشمل هذا الإطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعدل، والإحسان، ومراعاة حقوق الآخرين. هذه القواعد ليست مجرد قيود، بل هي ضمانات لحرية وكرامة الجميع. في الحقيقة، المجتمع الذي يكون أفراده مسؤولين ويستخدمون حريتهم لخدمة الخير العام، سيكون مجتمعًا ديناميكيًا ومزدهرًا تحترم فيه حقوق جميع الأعضاء. بالإضافة إلى ذلك، يوضح القرآن مفهوم "التحرر من الجبر". فالإنسان ليس فقط حرًا أمام الله، بل يمتلك درجة من الحرية فيما يتعلق بالقدر والقضاء الإلهي. على الرغم من أن المشيئة الإلهية تحيط بكل شيء، إلا أن هذا لا يعني سلب الاختيار من الإنسان. الإنسان قادر على التأثير على قدره من خلال الدعاء، والجهد، وتغيير النية والعمل. في سورة الرعد الآية 11 نقرأ: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ". هذه الحرية في التغيير والتطور تفتح أفقًا من الأمل والديناميكية للإنسان، وتحرره من اليأس والقنوط. إنه يعلم أن جهوده وخياراته ليست عبثًا ويمكن أن تقوده على طريق الكمال. في الختام، يقدم القرآن الحرية الفردية ليس كهدف نهائي، بل كوسيلة للوصول إلى القرب الإلهي والسعادة الأبدية. الحرية الحقيقية هي التي تمكن الإنسان من عبور دروب الضلال في الدنيا والوصول إلى لقاء الله. هذه الحرية موجهة وهادفة، وتجد معناها ومفهومها في نور الهداية الإلهية. وبالتالي، يعيد القرآن تعريف فهمنا للحرية من مفهوم غريزي وحسي بحت إلى مفهوم روحي ومسؤول وهادف، حيث كل خطوة تُتخذ نحو الله هي خطوة نحو الحرية والتحرر من قيود وأغلال الدنيا. هذا المنظور يحرر الإنسان من أقفاص الوهم ويدعوه نحو آفاق العبودية الواعية والحرة، حيث تتجلى الكرامة الإنسانية في أوجها ويحقق الفرد الهدوء الحقيقي.
جاء رجل غني إلى الشيخ سعدي ذات يوم وتبجح قائلاً: "أنا أحر الناس، فإني أملك كل ما أشتهي، ولا أحد يستطيع أن يأمرني." فابتسم الشيخ وقال: "يا رجل، ألا تستيقظ كل صباح وأنت تشتهي طعامًا معينًا؟ وهل تشعر أحيانًا بالضيق لعدم امتلاك شيء ما؟" أجاب الرجل: "بلى، هكذا هو." فقال الشيخ: "إذن فأنت لا تزال عبدًا لشهوات نفسك. الحرية الحقيقية هي أن تحرر القلب من قيود كل ما سوى الحق. الطائر المحبوس في قفص ذهبي ليس حرًا، أما الطائر الذي يجوب الصحراء ويتغذى من الحبوب أينما يجدها، فهو حر حقًا. ما دامت شهواتك تأمرك، فأنت عبد؛ حتى لو كنت ملكًا في الظاهر. أما إذا أتقنت شهواتك، فأنت حينئذ حر حقًا، حتى لو لم تملك شيئًا." تأثر الرجل بكلام الشيخ وتفكر في أن الحرية الحقيقية تكمن في السيطرة على النفس لا في امتلاك الدنيا.