يعلمنا القرآن الثبات أمام اليأس عبر التوكل على الله والصبر والصلاة والذكر. ويؤكد على عدم اليأس من رحمة الله، فمع العسر يسر حتمًا.
القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية ونبراس البشرية، مليء بالتعاليم التي لا تساعدنا فقط في حياتنا اليومية، بل تلعب دورًا حيويًا في تقوية الروح، ومواجهة اليأس، وتعزيز المثابرة والصمود في وجه الشدائد. اليأس، بصفته أحد أعظم الآفات الروحية، يمكن أن يوقف الإنسان عن التقدم ويدفعه نحو الجمود واليأس المطلق. لكن القرآن، من خلال تأكيده على مفاهيم الإيمان الأساسية، والتوكل، والصبر، والذكر، يقدم حلولًا جذرية لتجاوز هذه الحالة والوصول إلى السكينة الداخلية. وتشمل هذه التعاليم الجوانب الفكرية والعقائدية، بالإضافة إلى الجوانب العملية والسلوكية. أحد أبرز التعاليم القرآنية لمواجهة اليأس هو مفهوم "التوكل على الله". التوكل يعني الثقة المطلقة بالله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمور إليه بعد بذل الجهد والسعي. يدعو القرآن المؤمنين مرارًا وتكرارًا إلى التوكل، ويؤكد أن الله كافٍ لجميع الأمور. هذا الاعتقاد يمنح الإنسان الطمأنينة بأن هناك قوة لا نهائية، حكيمة ورحيمة، تدعمه حتى في أحلك اللحظات، ولن تتركه وحيدًا أبدًا. في سورة الطلاق، الآية 3، يقول تعالى: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (ومن يتوكل على الله فهو حسبه؛ إن الله بالغ أمره؛ قد جعل الله لكل شيء قدراً). هذه الآية تبشر بأن لكل مشكلة حلًا، وأن الله لا يخيب أبدًا عبده، بشرط أن يكون قلبه مرتبطًا بالله، وألا ييأس من الأسباب الظاهرية. التوكل ليس مجرد كلمة، بل هو حالة قلبية وأسلوب حياة يحرر الإنسان من القلق والاضطراب ويمنحه السلام، لأنه يعلم أن كل شيء سيسير في النهاية على أفضل وجه، حتى لو لم يبدُ كذلك في الظاهر. مفهوم آخر يؤكد عليه القرآن الكريم بشدة، ويجعل الصمود في وجه اليأس ممكنًا، هو "الصبر". الصبر يعني الثبات في مواجهة الشدائد، والامتناع عن الجزع والفزع، والثبات على الحق، سواء كان ذلك في مواجهة المصائب، أو في أداء العبادات، أو في ترك المعاصي. يدعو القرآن الكريم المؤمنين إلى الصبر في آيات عديدة، ويمدح الصابرين، ويعدهم بأجر عظيم. في سورة البقرة، الآية 153، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين). هذه الآية تبين أن الصبر والصلاة أداتان قويتان للتغلب على المشكلات واليأس. الصبر يمنح الإنسان القدرة على الحفاظ على هدوئه في مواجهة الشدائد، والنظر إلى الأمور بمنظور طويل الأمد. عندما يكون الإنسان صبوراً، يدرك أن لكل شدة نهاية، وأن بعد كل عسر يسر، وهذا الصبر يؤدي إلى التقرب من الله ورضاه. تُبرز هذه النقطة بوضوح في سورة الشرح (الانشراح)، الآيتين 5 و 6: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (فإن مع العسر يسراً؛ إن مع العسر يسراً). تكرار هذه الآية مرتين في سورة واحدة، تأكيد قاطع على حقيقة أن الصعوبات عابرة، وأن الله دائمًا يجعل بعد البلاء فرجًا. هذا الوعد الإلهي، مثل الماء الذي يطفئ نار اليأس، ينقي قلب الإنسان ويمنحه الأمل، بأنه حتى في أشد الظلمات، فإن النور الإلهي قادم، وسيكون هناك فرج من الرب. هذا اليقين القلبي هو أكبر رأسمال للمثابرة. "الصلاة وذكر الله" هما أيضًا من الأدوات المهمة التي يقدمها القرآن لمواجهة اليأس وتحقيق السكينة. الصلاة، باعتبارها عمود الدين ومعراج المؤمن، فرصة للتواصل المباشر وغير الوسيط مع الخالق. في لحظات الصلاة، يترك الإنسان هموم الدنيا وراء ظهره، ويسلم قلبه وروحه لله، ويشاركه مشكلاته، ويطلب منه العون والتسلية. هذا الارتباط العميق يزيل الشعور بالوحدة ويحل محله الحضور والدعم الإلهي. أما ذكر الله، فيعني تذكّر الله بالقلب واللسان، ويشمل تلاوة القرآن، والدعاء، والتسبيح، والتهليل. هذا التذكير المستمر يؤدي إلى السكينة والطمأنينة القلبية. في سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله؛ ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية تبين أن ذكر الله هو أهم عامل في إزالة القلق واليأس، ويساعد الإنسان على الحفاظ على هدوئه وثباته في مواجهة تحديات الحياة. كذلك، يقدم القرآن من خلال تذكيرنا بقصص الأنبياء الصالحين، أمثلة عملية وملهمة على الصمود في وجه اليأس. قصص مثل قصة أيوب عليه السلام الذي صبر صبرًا لا مثيل له على الأمراض الشديدة وفقدان الأموال والأولاد، وفي النهاية نال جزاءه؛ أو قصة يونس عليه السلام الذي نجا من الظلمات واليأس في بطن الحوت، وقُبلت توبته؛ وكذلك القصة المليئة بالصعود والهبوط ليوسف عليه السلام الذي صعد من البئر ليصبح عزيز مصر ويصل إلى القوة والعزة - كلها دروس عظيمة في عدم اليأس والأمل بالفرج الإلهي. هذه القصص تعلمنا أنه حتى في ذروة المشاكل والمصائب، يجب أن نؤمن برحمة الله وقدرته، وألا نيأس منه أبدًا؛ لأن لكل مشكلة نهاية، وبعد كل ظلام يأتي النور. الأهم من ذلك كله، يذكرنا القرآن بأن الحياة الدنيا هي دار ابتلاء، وأن الشدائد جزء لا يتجزأ منها. يساعدنا هذا المنظور على رؤية المصائب ليس كعقاب، بل كفرصة للنمو والتطهير والتقرب إلى الله. في سورة العنكبوت، الآيتين 2 و 3، يقول تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؛ ولقد فتنا الذين من قبلهم؛ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). تمنحنا هذه الآيات فهمًا عميقًا بأن المشاكل هي لاختبار إيماننا، وليس لتدميرنا. هذا المنظور يحوّل اليأس إلى عامل للنمو والتقرب إلى الله، ويمنح الإنسان القوة للصمود بكل كيانه في مواجهة ذلك. أخيرًا، يعلمنا القرآن ألا نيأس أبدًا من رحمة الله الواسعة. ربما تكون هذه هي الرسالة الأهم التي يقدمها القرآن لمواجهة اليأس. في سورة يوسف، الآية 87، يقول تعالى: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (ولا تيأسوا من روح الله؛ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). هذه الآية تصرح بأن اليأس من رحمة الله هو علامة على الكفر، وأن المؤمن الحقيقي لا ييأس أبدًا تحت أي ظرف، مهما كان صعبًا، ويرى دائمًا بصيصًا من الأمل. هذا المنظور هو قوة دافعة قوية للاستمرار في المسار، والتغلب على كل عقبة، والتحرك نحو مستقبل أكثر إشراقًا. من خلال هذه التعاليم الشاملة والعميقة، لا يضيء القرآن الطريق للخروج من اليأس فحسب، بل يمنح الإنسان القدرة على المثابرة في جميع تقلبات الحياة بقلب مطمئن وروح صامدة، متطلعًا دائمًا إلى اللطف والفرج الإلهي.
يُروى في حكايات سعدي أن رجلًا تقيًا وصالحًا ذات يوم وقع في ضائقة شديدة، وتحول الحظ ضده. فُقدت كل ثروته، وتخلى عنه أصدقاؤه. خواجة عماد، كما كان يُدعى، غرق في اليأس لدرجة أنه بدا وكأن لا شعاع نور يمكن أن يصل إليه. غمر الحزن والأسى كيانه، ولم يعد لديه قوة للاستمرار. ولكن في أوج هذا الظلام، تذكر كلمات الحكماء وآيات القرآن التي تقول: 'لا تيأسوا أبدًا من رحمة الله.' فبدلاً من الاستسلام للحزن، التجأ إلى الله، وبقلب مكسور ولكنه مليء بالإيمان، بدأ في الذكر والدعاء. ورغم أن المشاكل بدت بلا نهاية، فقد ثابر بصبر وتوكل على الله، وأدى واجباته ولم يغفل عن ذكر الله. وأخيرًا، بعد فترة طويلة، جاءه فرج غير متوقع من الرب. ظهرت له فرصة جديدة في حياته لم تحرره من مأزقه فحسب، بل أوصلته إلى حالة من السلام والشرف لم يكن يتخيلها من قبل. هذه القصة تعلمنا أنه في عمق اليأس، يشرق الأمل بالله كنور في القلب، وأن الثبات في الإيمان هو مفتاح تخطي كل مأزق والوصول إلى الفرج؛ لأنه 'مع كل عسر يسر'.