كيف أوصى القرآن بصلاة الليل؟

يشير القرآن الكريم في آيات عديدة إلى فضيلة وأهمية صلاة الليل، وخاصة في سورة المزمل التي تدعو النبي (ص) والمؤمنين إلى القيام في الليل للعبادة وتلاوة القرآن، وتصفها بأنها سبب لقوة الروح والوصول إلى المقام المحمود.

إجابة القرآن

كيف أوصى القرآن بصلاة الليل؟

في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، تحتل صلاة الليل، التي تُعرف أيضًا بـ «التهجد» أو «قيام الليل»، مكانة خاصة جدًا، وقد تم الحث عليها وتشجيعها بأشكال مختلفة. هذه العبادة التطوعية ليست مجرد علامة على التقوى العميقة والإخلاص، بل هي طريق للوصول إلى الكمالات الروحية والقرب الإلهي. يدعو القرآن بأسلوب بليغ وجميل المؤمنين إلى النهوض من نومهم في جوف الليل والخلوة بربهم، ويعدد لها فوائد لا تُحصى. من أبرز الإشارات الصريحة إلى صلاة الليل وأوضحها، ما ورد في سورة المزمل المباركة (السورة ٧٣ من القرآن الكريم). في بداية هذه السورة، يخاطب الله تعالى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿١﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٢﴾ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿٣﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿٤﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿٥﴾ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿٦﴾» (يا أيها المتغطي بثيابه! قم الليل إلا قليلًا، نصفه أو انقص منه قليلًا، أو زد عليه ورتِّل القرآن ترتيلًا. إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا. إنَّ قيام الليل هو أشد تأثيرًا وأثبت قولًا). هذه الآيات تكلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صراحة بالقيام في الليل، وهذا الأمر، وإن كان في البداية موجهًا إليه، إلا أنه بمثابة قدوة لكل الأمة الإسلامية. عبارة «إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا» تعني أن القيام في الليل والعبادة التي تتم فيه، من حيث تأثيرها على النفس والروح، أقوى وأكثر رسوخًا، ومن حيث القول (تلاوة القرآن أو الدعاء)، أثبت وأكثر فعالية؛ لأن العقل في سكون الليل يكون بعيدًا عن مشاغل النهار، ويتأسس الاتصال بالله بصورة أعمق وأصدق. في هذا الجو الهادئ والخاص، يقل الرياء والمباهاة إلى أقصى حد، ويتوجه العبد بإخلاص إلى ربه. كما أن الاستعداد لاستقبال «قولًا ثقيلًا» (الوحي الثقيل) الذي كان ينزل على النبي، كان أحد أهداف هذه السهرات الليلية، مما يدل على الدور التربوي وإعداد الروح للمهام العظيمة. وفي سياق هذه السورة نفسها، يتفضل الله برحمته ويخفف هذه العبادة، فيقول: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَأُوا مَا تَیَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ یَضْرِبُونَ فِی الْأَرْضِ یَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَأُوا مَا تَیَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَیْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَیْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ ﴿٢٠﴾» (إن ربك يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وكذلك طائفة من الذين معك. والله يقدر الليل والنهار. علم أنكم لن تحصوه فتاب عليكم، فاقرأوا ما تيسر من القرآن. علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فاقرأوا ما تيسر منه. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضًا حسنًا. وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا. واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم). هذه الآية تبرز روح التيسير وعدم المشقة في الإسلام. يعلم الله أن جميع البشر لا يملكون نفس القدرة على قيام الليل، وقد يكونون مرضى أو مسافرين أو يسعون وراء الرزق الحلال. لذلك، بدلًا من الكمية الكبيرة، يؤكد على الجودة والاستمرارية، ويقول: «فاقرأوا ما تيسر من القرآن». هذا يعني أن حتى آيات قليلة، مع حضور القلب والنية الخالصة، لها قيمة وتأثير عميق، والمهم هو الحفاظ على الاتصال واستغلال هذه الفرصة الذهبية. آية أخرى تتحدث صراحة عن صلاة الليل هي الآية ٧٩ من سورة الإسراء: «وَمِنَ اللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن یَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴿٧٩﴾» (ومن الليل فاستيقظ للصلاة نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا). كلمة «تهجد» مشتقة من «هجود» بمعنى النوم، والتهجد يعني الاستيقاظ من النوم للعبادة. هذه الآية تُعرف صلاة الليل كعبادة «نافلة» (إضافية ومستحبة) تؤدي إلى الوصول إلى «المقام المحمود». المقام المحمود هو مكانة رفيعة يصل إليها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، ومن ضمنها مقام الشفاعة الكبرى. هذه الآية تدل على أن السهر الليلي والمناجاة الليلية هي مفتاح الوصول إلى درجات روحية عليا والقرب من الله، وأنه فقط في خلوة الليل يمكن للإنسان أن يقيم علاقة عميقة مع الخالق بحيث يستحق مثل هذا الأجر العظيم. كذلك، يصف القرآن الكريم في سياق الحديث عن العباد الصالحين والأتقياء، سمة قيامهم الليل. ففي سورة الذاريات (السورة ٥١) يقول تعالى: «كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّیْلِ مَا یَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾» (كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلًا، وبالأسحار هم يستغفرون). هذه الآيات تُظهر بوضوح أن من سمات المؤمنين الصادقين والأتقياء قلة النوم في الليل واستغلال لحظات السحر للاستغفار وطلب المغفرة. وقت السحر هو ذروة الهدوء وحضور القلب، والدعاء والاستغفار في تلك اللحظات لهما آثار مذهلة. هذه الآية تعلمنا أنه للوصول إلى مقام المتقين، يجب تجاوز لذة نوم الليل وتلبية النداء الإلهي. وفي سورة السجدة (السورة ٣٢) أيضًا، تُوصف صفات المؤمنين الصادقين على النحو التالي: «تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنفِقُونَ ﴿١٦﴾» (تتجافى جنوبهم عن الفرش، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، ومما رزقناهم ينفقون). تعبير «تتجافى جنوبهم عن المضاجع» هو صورة جميلة لترك الراحة والنوم للحصول على درجات روحية. هؤلاء الأفراد يتضرعون بجمع بين «الخوف» من العذاب الإلهي و«الطمع» في رحمته ومغفرته، مما يدل على التوازن بين هذين الشعورين في العبادة. بشكل عام، فإن وصية القرآن بصلاة الليل تتجاوز مجرد التوصية؛ بل هي برنامج تربوي شامل لتهذيب النفس، وتقوية الإرادة، وزيادة الإخلاص، وتعميق العلاقة مع الله. هذه العبادة في خلوة الليل تمنح الإنسان فرصة للتأمل والتفكر في الآيات الإلهية دون أي مشتتات، والتوبة من ذنوبه، وطلب حاجاته كلها من الخالق الغني. الهدوء والسكينة اللذان يسودان في جوف الليل يوفران أفضل بيئة للتركيز وحضور القلب، وهذا ما يجعل صلاة الليل متميزة وأكثر تأثيرًا من غيرها من العبادات. آثار وبركات صلاة الليل لا تقتصر على الحياة الأخروية فحسب، بل تجلب في الحياة الدنيا أيضًا السكينة، والبصيرة، والصبر، والمقاومة ضد المشاكل، وتفتح أبوابًا من التوفيق الإلهي على الإنسان. هذه الوصية القرآنية هي دعوة إلى رحلة داخلية، نحو نور لا يمكن إدراكه إلا في ظلمات الليل، وتحتاج إلى قلب نقي وروح مستعدة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك عابد يترك فراشه في جوف الليل وينهمك في الصلاة. لم يفعل ذلك ليُظهر للناس، بل كان من منطلق حبه وحاجته لله تعالى. ذات يوم، سأله تلميذه: "يا أستاذ، ما سر هذا السهر الليلي الذي يجلب لك هذا الشوق الشديد؟" فأجاب العابد: "يا بني، فراش الليل هو خلوة العاشق. في تلك الظلمة، حيث تغيب أعين المراقبين، يتحدث قلب العبد مع ربه، وفي هذا الحديث، يشتعل نور في القلب لا تستطيع أي شمس إخماده. هذا هو السكينة التي لا توجد إلا في أحضان السحر." بعد سماع ذلك، أدرك التلميذ فضيلة قيام الليل والخلوة مع المعبود، ومنذ ذلك الحين، بدأ هو أيضًا يتضرع في الأسحار وتذوق حلاوتها.

الأسئلة ذات الصلة