يبرز القرآن الكريم أهمية الذكر الإلهي كمصدر لراحة القلب، ووسيلة للتقرب إلى الله، ومفتاح للفلاح في الدنيا والآخرة. الذكر ليس مجرد عبادة لفظية، بل هو حالة حضور قلبي دائم أمام عظمة الخالق، وتذكير مستمر به في جميع شؤون الحياة.
في تعاليم القرآن الكريم السامية والعميقة، يحتل 'الذكر الإلهي'، أي تذكر الله سبحانه وتعالى، مكانة فريدة ومحورية، ويحظى بأهمية بالغة. فالقرآن يرى الذكر ليس مجرد عمل عبادي بسيط، بل هو جوهر الحياة الروحية وروح العبودية، القادر على إحلال الطمأنينة في قلب الإنسان وتقريبه من منبع الوجود. بل إن أهمية الذكر وصلت إلى حد أن الله تعالى دعا عباده إليه في آيات عديدة وبصيغ متنوعة، وكأن مسيرة الإنسان التطورية والروحية تبقى ناقصة بدونه. هذه الدعوة للذكر لا تقتصر على أوقات معينة من اليوم فحسب، بل تمتد لتشمل جميع لحظات الحياة، لكي يبقى الإنسان دائم الصلة بخالقه ومحمياً من الغفلة والضلال. من الآيات المحورية في باب الذكر، الآية 152 من سورة البقرة التي تقول: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ». هذه الآية تمثل وعداً إلهياً ومعاملة مباركة؛ فعندما يتذكر الإنسان ربه بكل كيانه، فإن الله بدوره يتذكره. ولكن ما معنى أن يتذكر الله عبده؟ هذا التذكر يعني نزول الرحمة والبركة، والهداية إلى صراط الحق، والعون والنصرة في الشدائد، وغفران الذنوب. عندما يتذكر الله عبده، يحيطه برعايته الخاصة وعنايته الفائقة، ويمهد له سبل الوصول إلى الكمال والسعادة. هذه العلاقة المتبادلة تكشف عن أعمق وأجمل أبعاد الذكر الإلهي، وتطمئن الإنسان بأنه ليس وحيداً في أي لحظة من لحظاته. كما يصف القرآن الذكر بأنه نبع الطمأنينة وسكينة القلب. ففي عالم اليوم المضطرب والمليء بالقلق، يسعى الناس دائماً للعثور على السلام والهدوء الداخلي. آية 28 من سورة الرعد تصرح بوضوح: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ». هذه الآية تربط الطمأنينة بذكر الله. في الواقع، إن ذكر الله يشبه مرساة السفينة التي تبقي القلب ثابتاً ومستقراً في بحر الحياة الهائج. فعندما يأنس القلب بذكر الله، يتحرر من الهموم والمخاوف والقلق الدنيوي، وينعم بسلام حقيقي ودائم لا يمكن لأي ثروة أو قوة أن توفره. هذا السلام هو نتيجة الوعي بحضور الله المراقب والقدير، مما يمنح الإنسان شعوراً بالأمان والسند المتين. وقد شدد القرآن أيضاً على نوعية الذكر وكميته. ففي سورة الأحزاب، الآيتين 41 و 42 يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا». التأكيد على «الذكر الكثير» يشير إلى أن الذكر لا ينبغي أن يقتصر على زمان أو مكان محدد، بل يجب أن يتحول إلى عادة دائمة وحالة مستمرة من الوعي في حياة المؤمن. هذه الكثرة في الذكر تعني أن الإنسان يجب أن يكون ذاكراً لله في كل أحواله، سواء في الفرح أو الحزن، في العمل أو الراحة، في الخلوة أو في الجماعة. وتسبيح الله بالغدو والآصال (الصباح والمساء) هو رمز لديمومة وثبات هذا الذكر، لأن هذه الأوقات تمثل بداية ونهاية الأنشطة اليومية، واستحضار الوجود الإلهي فيهما يؤثر على اليوم بأكمله. الذكر الإلهي لا يقتصر على التسبيح والتهليل اللفظي فحسب، بل يشمل أيضاً الذكر القلبي والعملي. الذكر القلبي هو التفكر في عظمة الخلق، وفي آيات الله، وقدرته وحكمته؛ ففي الواقع، كل لحظة يتأمل فيها الإنسان في عمق وجوده في الله وصفاته، يكون في حالة ذكر. أما الذكر العملي، فهو أداء الواجبات وترك المحرمات بنية التقرب إلى الله. فالصلاة والصيام والزكاة والحج، كلها تعد من أسمى أنواع الذكر العملي، لأن الإنسان بأدائها يكون ذاكراً لله ولأوامره عملياً. وفي سورة الجمعة، الآية 10 نقرأ: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». هذه الآية تبين العلاقة المباشرة بين الذكر الكثير والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. الفلاح هو غاية كل إنسان، والقرآن يرى طريق الوصول إليه في دوام ذكر الله. وفوائد الذكر من منظور القرآن واسعة النطاق. فبالإضافة إلى الطمأنينة والفلاح، يسهم الذكر في تقوية الإرادة والبصيرة، والحماية من الذنوب والوساوس الشيطانية، وزيادة معرفة الإنسان بنفسه وبربه. الذكر يصقل الروح ويطهر القلب من التعلقات الدنيوية وصدأ الذنوب. كما يساعد الإنسان على امتلاك صبر وثبات أكبر في مواجهة المشاكل، وعدم اليأس من عون الله وفضله. في الحقيقة، الذكر الإلهي هو جسر يربط الإنسان من عالم المادة إلى عالم المعنى، ويمنحه فهماً أعمق لهدف الحياة ومكانته في الوجود. هذا الارتباط الدائم لا يؤدي إلى السلام والسعادة الفردية فحسب، بل يحوله أيضاً إلى مصدر خير وبركة للمجتمع، لأن من يذكر الله باستمرار، يراعي رضاه في جميع أعماله وسلوكه. لذلك، يؤكد القرآن أن الذكر هو العمود الفقري للإيمان ومفتاح الوصول إلى جميع أبعاد الحياة الطيبة، من السلام الداخلي إلى الفلاح الأخروي. هذا الارتباط المستمر بالخالق يمنح الإنسان قوة تمكنه من التغلب على جميع تحديات الحياة، ويسلك طريق العبودية بقلب مطمئن وروح هادئة. الذكر ليس مجرد فعل، بل هو أسلوب حياة يؤثر على جميع أبعاد الوجود الإنساني ويوجهه نحو الكمال والنورانية.
يُروى أن رجلاً ورعاً ناسكاً، كان يمشي في الصحراء يوماً ببالٍ هادئ وطمأنينة عميقة. فسأله عابر سبيل: «أيها الرجل الصالح، كيف لك أن تكون بهذه البساطة والفقر، ورغم ذلك تتدفق فيك هذه السكينة والطمأنينة؟» فأجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: «ليس لي في هذه الدنيا مال أو متاع أخشى سرقته أو أحاسب عليه. قلبي متحرر من قيود الدنيا، وروحي تجد الطمأنينة في ذكر الله. كلما قلّ تمسكي بالعالم الخارجي، امتلأ داخلي بمزيد من السلام. هذا السلام الحقيقي لم أجده في الثروة، بل في الاستغناء عنها والاتصال الدائم بالمحبوب الإلهي.» أخذ العابر العبرة من كلامه وأدرك أن راحة البال الحقيقية لا تكمن في جمع المال، بل في ذكر الله والتحرر من قيود الدنيا. هذه القصة الجميلة تعلمنا كيف أن الذكر الإلهي يحرر القلب من الهموم ويوصله إلى شاطئ الطمأنينة، تماماً كالدرويش الذي عاش في أقصى درجات السلام بذكر الله وحضوره.