القيمة الإنسانية الحقيقية ليست في آراء الناس، بل في صلة المرء بالله ومستوى تقواه. بالتوكل على الله والإخلاص في الأعمال، يمكن للمرء أن يتحرر من الأحكام السطحية ويجد السلام الداخلي.
هذا السؤال يلامس تحديًا إنسانيًا عميقًا ومستمرًا، متجذرًا في حاجتنا الطبيعية للانتماء والقبول الاجتماعي. كثير منا، دون وعي غالبًا، يزن نفسه بموازين تصورات الآخرين، ويحدد قيمته بناءً على ما يعتقده من حوله عنا. هذا الاعتماد يمكن أن يؤدي إلى القلق واليأس وفقدان الهوية الحقيقية. لكن دين الإسلام السامي، وخاصة القرآن الكريم، يقدم طريقًا واضحًا وقويًا للتحرر من هذا القيد، موفرًا مصدرًا ثابتًا للقيمة الإنسانية المتأصلة. هذا الطريق يتضمن ربط قيمة الذات بالخالق العظيم ومعاييره ومبادئه الإلهية. 1. التوكل والاعتماد على الذات الإلهية الأبدية: المرجع الحقيقي الوحيد للقيمة الخطوة الأولى والأساسية للتحرر من الاعتماد على آراء الآخرين هي إدراك هذه الحقيقة: أن المصدر الحقيقي الوحيد للقيمة والعزة هو الله تعالى. العزة والشرف الحقيقيان لا يوجدان في مدح الناس وثناءهم ولا في موافقتهم وقبولهم. بل يكمنان في الارتباط بالوجود الذي هو مصدر كل خير وكمال. يذكر القرآن الكريم بوضوح: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (سورة المنافقون، الآية 8). هذه الآية نور يوضح أن العزة والقوة الحقيقيتين لله وحده، ثم لرسوله، ثم للمؤمنين. المؤمن هو من سلّم قلبه لله ونظره موجه إلى الخالق لا إلى المخلوق. عندما يفهم الإنسان هذا المفهوم ويقبله بكل وجوده أن عزته وقيمته تأتي من الله، فإنه لم يعد يرى حاجة إلى الاعتماد على موافقة الآخرين وإعجابهم لكسب قيمته واحترامه. هذا التوكل على الله يمنح الإنسان قوة داخلية تحميه من التذبذب أمام آراء الناس المتقلبة وأحيانًا الخبيثة. فهو يعلم أنه إذا قام بفعل من أجل رضا الله، سواء مدحه الناس أو ذموه، فإن القيمة الحقيقية لذلك الفعل محفوظة، ومكافأته عند الله. هذا النهج يمنح الإنسان سلامًا عميقًا، لأنه لم يعد يقلق بشأن فقدان قيمته مع كل تغيير في آراء الناس. قيمته مرتبطة بصخرة ثابتة لا يمكن لأي عاصفة أن تهزها. 2. التقوى: المعيار الحقيقي للتفوق في نظر الله يحدد القرآن الكريم بوضوح معيار تفوق البشر: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (سورة الحجرات، الآية 13). هذه الآية المحورية هي حجر الزاوية في فهم القيمة الإنسانية الحقيقية. لقد وضع الله تعالى معيار التفوق والكرامة ليس في الثروة، ولا في الجمال، ولا في الوضع الاجتماعي، ولا في العرق، ولا في عدد الإعجابات والتعليقات من الآخرين، بل في "التقوى". التقوى تعني ضبط النفس، والورع، والخشية الواعية من الله التي تؤدي إلى أداء أوامره والابتعاد عن نواهيه. عندما يدرك الإنسان أن قيمته الحقيقية في نظر خالقه تتحدد فقط بمدى تقواه وورعه، فإنه لن يسعى بعد الآن لكسب رضا الناس من خلال أعمال فارغة وسطحية. بل سيكرس كل جهده واهتمامه لزراعة الفضائل الإلهية وأداء الأعمال الصالحة بنية خالصة (الإخلاص)، ليس ليراه الناس أو يسمعوه، بل لكسب رضا الكائن الوحيد الذي يعرف ويقدر القيمة الحقيقية. هذا المنظور يمنح الشخص هوية مستقلة وداخلية تظل مستقرة وأصيلة، بغض النظر عن التقلبات الاجتماعية. فالمتقي يشعر بالاحترام والكرامة داخليًا، حتى لو تعرض لسوء المعاملة أو حكم غير عادل من الناس، لأنه يعلم من الذي يدرك ويقيم قيمته الحقيقية. 3. الغاية من الخلق والمسؤولية الفردية: التركيز على الواجب لا حكم الآخرين يؤكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على الغاية من خلق الإنسان ومسؤولياته الفردية. لقد خُلق الإنسان للعبادة والعبودية لله: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (سورة الذاريات، الآية 56). هذه العبودية لا تشمل الصلاة والصيام فحسب، بل تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة؛ من سلوك الفرد مع نفسه وأسرته إلى تفاعله مع المجتمع والبيئة. عندما يرى الإنسان أن هدفه الأساسي في الحياة هو عبادة الله وأداء واجباته، فإنه لم يعد يرى حاجة إلى طلب موافقة ورضا الآخرين لكل حركة وقرار يتخذه. إنه يعلم أنه في النهاية، مسؤول عن أفعاله، وأن الحكم النهائي سيأتي من الله وحده: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (سورة المدثر، الآية 38). هذا الوعي يمنحه استقلالًا فكريًا وعمليًا. وبدلًا من القلق بشأن تصورات الناس، سيكون قلقًا بشأن جودة أفعاله ورضا الله عنها. هذا المنظور يؤدي بالشخص إلى إعطاء الأولوية للإخلاص والنقاء الداخلي على المظاهر الخارجية والتظاهر. فهو لم يعد مستعبدًا لأحكام الناس السطحية والعابرة، بل يظل ثابتًا على طريق الحق. 4. زوال الدنيا وبقاء الآخرة: التمييز بين القيم الدنيوية والأخروية يشدد القرآن الكريم مرارًا على الطبيعة المؤقتة والزائلة لهذه الدنيا وكل ما يتعلق بها، بما في ذلك الثروة والمكانة وحتى آراء الناس، مقارنًا ذلك بديمومة وخلود الآخرة والمكافآت الإلهية. عندما يدرك الفرد حقيقة أن أحكام الناس ومدائحهم أو ذمهم في هذه الدنيا الفانية هي مثل فقاعات غير مستقرة وعديمة القيمة، فإنه يعلق أهمية أقل عليها. "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (سورة الحديد، الآية 20). هذه النظرة العميقة للوجود تحرر الإنسان من التعلق بالأشياء الزائلة وتساعده على البحث عن القيم الحقيقية والدائمة التي هي عند الله وستتجلَّى في الآخرة. التركيز على ما يبقى عند الله يمنح الشخص شعورًا بالثقة بالنفس والاستقلال، لأنه لم يعد يقلق بشأن فقدان الموافقات الدنيوية. فهو يعلم أن مكافأته من الخالق، وليس من المخلوق. خطوات عملية مستمدة من التعاليم القرآنية: * تقوية العلاقة مع الله: تقرب إلى الله بأداء الصلوات بخشوع، وتلاوة القرآن وتدبره، والمواظبة على الدعاء والذكر، والسعي لمعرفة أسماء الله وصفاته. كلما قويت هذه العلاقة، قل شعورك بالاعتماد على الناس. * تنمية الإخلاص في الأعمال: قم بجميع أعمالك فقط لرضا الله. هذا الإخلاص هو جوهر العبودية وينقذ الإنسان من الرياء والتظاهر. عندما تكون نيتك نقية، لن تهتم بما يقوله الآخرون. * تهذيب النفس وبناء الشخصية: بدلًا من محاولة تغيير تصورات الآخرين، ركز على تحسين ذاتك وتصحيح عيوبك الداخلية. هذا التهذيب هو الذي يزيد من قيمتك الحقيقية في نظر الله. * تجنب المقارنات: امتنع عن مقارنة نفسك بالآخرين، خاصة بناءً على معايير سطحية ودنيوية. قيمة كل إنسان فريدة، وقد اختبر الله كل شخص بطريقة خاصة. * التركيز على الواجبات والرسالة الفردية: ركز على ما هو واجبك ورسالتك في الحياة. إنجاز مسؤولياتك بشكل صحيح، دون الاهتمام بالانشغالات الخارجية وأحكام الآخرين، يمنحك شعورًا عميقًا بالقيمة. * قبول النواقص: الإنسان خطّاء. قبول نواقصك والسعي لتصحيحها هو علامة على النضج والوعي الذاتي. لا حاجة لأن تبدو دائمًا مثاليًا وخاليًا من العيوب لتكسب موافقة الآخرين. في الختام، التحرر من قيود آراء الآخرين لا يعني التجاهل التام للملاحظات البناءة، بل يعني عدم ربط قيمتك الذاتية بها. إن الإنسان الذي يلتمس قيمته في نظر الله ينال طمأنينة عميقة، وتتكون لديه نفس قوية، ويعيش بكرامة، غير متأثر بموجات الثناء أو الذم من الناس. فهو يعلم أن ما يبقى هو نظر الله وحده.
يُحكى أن درويشًا زاهدًا كان دائم العبادة والانعزال، مبتعدًا عن مخالطة الناس. فظنه بعضهم مجنونًا، بينما وصفه آخرون بالمتعبد الورع. لم يبال الدرويش بما قاله الناس، سواء كان خيرًا أم شرًا. وعندما سئل لماذا لا يلقي بالًا لكلام الناس؟ قال: "إن الذين يصفونني بالمجنون غافلون عن حال قلبي، والذين يمدحونني جاهلون بعيوبي الخفية. فما لي ولقول الخلق؟ نظري معلق على نظر الحق، فهو عليم بالظاهر والباطن." وهكذا اطمأن قلبه، ولم يطلب قيمته إلا في رضا ربه، لا في ألسنة البشر المتقلبة.