السلام الدائم ينبع من ذكر الله، والتوكل عليه، والصبر، والصلاة، والنظرة الأخروية، ولا يتأثر بالتقلبات الدنيوية. هذه الطمأنينة الحقيقية متجذرة في اتصال عميق بخالق الكون.
سؤال كيفية الوصول إلى سلام لا يعتمد على الظروف الخارجية يتناوله القرآن الكريم بعمق، مقدمًا إرشادات ورؤى عميقة. يعلمنا الإسلام أن الطمأنينة الحقيقية لا توجد في جمع الثروات، ولا في تحقيق المكانة الدنيوية، ولا في تحقيق جميع الرغبات المادية؛ بل مصدرها يكمن في قلب الإنسان وعلاقته بخالق الكون. يقدم القرآن الكريم عدة سبل للوصول إلى هذا السلام الدائم، وسنتناولها بالتفصيل. 1. ذكر الله (Dhikrullah): جوهر الطمأنينة العامل المحوري والأقوى لتحقيق السلام الداخلي هو الذكر الدائم لله تعالى. يقول القرآن الكريم بوضوح في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية ترسي مبدأً أساسيًا وعالميًا. السلام الحقيقي، السلام الذي لا يتأثر بالتقلبات والتغيرات الخارجية، لا يتحقق إلا من خلال اتصال عميق بمصدر السلام المطلق، وهو الله نفسه. الذكر ليس مجرد تكرار للكلمات؛ بل يشمل التفكر في عظمة الله، وتلاوة القرآن، والصلاة، والدعاء، وحتى حضور القلب في جميع شؤون الحياة بنية إلهية. عندما يتذكر الإنسان أن كل شيء في يد الله، وأن ورقة لا تسقط إلا بإذنه، تتبدد القلق والمخاوف الناتجة عن عدم القدرة على التحكم في الظروف الخارجية. يساعد هذا التذكير المستمر الفرد على التحلي بالصبر في مواجهة المصائب، والشكر على النعم، لأنه يعلم أن كل شيء من الله ويحمل في طياته الخير. 2. التوكل على الله (Tawakkul): تفويض الأمور إليه ركيزة أخرى للسلام الدائم هي التوكل الحقيقي على الله. التوكل لا يعني التخلي عن الجهد؛ بل يعني بذل كل الجهود الممكنة ضمن القدرة البشرية، ثم تفويض النتائج إلى الله، مع الثقة الكاملة في حكمته وتدبيره. في سورة آل عمران، الآية 159، نقرأ: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (فإذا عزمت فتوكل على الله؛ إن الله يحب المتوكلين). عندما يعلم الإنسان أن رزقه وعمره وصحته وجميع أموره في يد قوة لا متناهية تريد الخير له، ينزل عليه سلام عميق. يحرر هذا التوكل الفرد من المخاوف المالية أو الاجتماعية أو الصحية التي غالبًا ما تنبع من الخوف من المستقبل. إنه يعلم أن الله هو خير المدبرين، وأنه لا يحدث شيء خارج إرادته، حتى لو بدا غير مرغوب فيه ظاهريًا، فإنه يحمل خيرًا باطنيًا. 3. الصبر والصلاة (Sabr wa Salat): أدوات مواجهة الشدائد يوجه القرآن الكريم المؤمنين للاستعانة بالصبر والصلاة عند مواجهة التحديات والصعوبات. في سورة البقرة، الآية 153، جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين). الصبر يعني تحمل المشقات والبلاء دون جزع أو تذمر، والتحكم في الغضب والمشاعر السلبية. الصلاة، من جانبها، هي اتصال مباشر وغير وسيط مع الله يغذي الروح ويمنح الإنسان القوة والطمأنينة. عندما يرى الإنسان نفسه في الصلاة أمام خالق الكون، تتلاشى مشاعر الضعف والضآلة أمام المشاكل، ويمتلئ بالطاقة الإلهية. هذان العاملان، الصبر والصلاة، بمثابة المراسي التي تحافظ على سفينة وجود الإنسان ثابتة ومستقرة في خضم تقلبات الحياة، وتمنع العواصف الخارجية من إزعاج سلامه الداخلي. 4. القناعة والرضا بالقضاء الإلهي (Qana'ah wa Rida bi al-Qada'): قبول ما هو كائن جانب آخر لتحقيق السلام الدائم هو قبول القضاء الإلهي والقناعة بما قدره الله. غالبًا ما يفقد الإنسان سلامه عندما يعاني مما لا يملكه أو يبقى في حسرة على ما فقده. يدعونا القرآن الكريم إلى حياة مصحوبة بالشكر والقناعة. على الرغم من عدم وجود آية صريحة بلفظ "القناعة"، إلا أن روح العديد من الآيات التي تشير إلى الشكر على النعم (إبراهيم 7)، وتجنب الطمع والجشع (التكاثر 1-2)، وتفضيل الآخرة على الدنيا (الأعلى 16-17)، تؤكد هذا المفهوم. عندما يرضى الإنسان بقضاء الله ويعلم أن كل حدث، حتى لو بدا غير سار، يحمل حكمة في طياته، فإنه لم يعد عبدًا للتقلبات الخارجية. حالة الرضا هذه تحرره من المقارنات اللانهائية والندم العقيم، وتمكنه من تجربة السلام في أي ظرف. 5. الإيمان بالمعاد والحياة الآخرة (Iman bi al-Ma'ad): نظرة تتجاوز الدنيا السلام الذي لا يعتمد على الظروف يتطلب رؤية أوسع من الحياة الدنيا. الإيمان الراسخ بالحياة بعد الموت وحساب الأعمال في الآخرة يساعد الإنسان على وضع الأمور والمشاكل الدنيوية في منظورها الصحيح. يشير القرآن الكريم باستمرار إلى زوال الدنيا وخلود الآخرة. على سبيل المثال، في سورة الأعلى، الآيتان 16 و 17، يقول: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿١٦﴾ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴿١٧﴾" (بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى). عندما يفهم الإنسان أن هذه الدنيا زائلة وأن الهدف الرئيسي للحياة هو الاستعداد للخلود، فإن الأحداث الدنيوية لن تستطيع أن تعكر صفو سلامه الداخلي تمامًا. تُرى المصائب والشدائد كامتحانات إلهية يحفظ ثوابها في الآخرة، والنجاحات كفرص للشكر وأداء الأعمال الصالحة. يوفر هذا المنظور مرساة قوية للسلام الداخلي في جميع الظروف. في الختام، السلام الذي لا يعتمد على الظروف ينبع من إيمان عميق بالله، توكل كامل عليه، اللجوء إلى الذكر والصلاة، التحلي بالصبر، وتبني منظور يركز على الآخرة. هذه مفاهيم تحرر قلب الإنسان من عبودية الرغبات الدنيوية والخوف من التغيرات الخارجية، وتربطه بالمصدر الأبدي للسلام. هذا السلام هو هبة إلهية يمكن تحقيقها بالالتزام بهذه المبادئ القرآنية، ويمكن العثور عليها في الذات في كل زمان ومكان.
حُكي أن درويشًا كان معروفًا بقناعته، وقلبه دائمًا مستسلم لمشيئة الله. ذات يوم، مرّ بالسوق فرأى تاجرًا ثريًا يجلس وسط بضائعه الثمينة، وقد علت وجهه علامات الهم والقلق. حيّاه الدرويش بابتسامة. رد التاجر بضيق قائلاً: "أيها الدرويش، أنت دائمًا مرتاح البال، ونحن دائمًا مثقلون بالهموم والأحزان. ما هو سر هذا؟" أجاب الدرويش: "السر في هذا: أنت تفكر فيما تفتقده، بينما أنا أشكر على ما أملك. أنت مقيد بالسوق وأرباحه وخسائره، وقلبي مشغول بذكر الله. من يسلم قلبه للحق ويصرف بصره عن الدنيا الفانية، فإن السلام لن يتركه أبدًا، سواء في الفقر أو في الغنى." فكّر التاجر وأدرك أن السلام لا يوجد في كثرة المال، بل في صفاء القلب والاستغناء عن الدنيا.