لتجنب مقارنة نفسك بالمؤمنين الآخرين، ركز على الحكمة الإلهية في تقسيم الأرزاق، وتقبل المسؤولية الفردية، وكن شاكراً لنعمك، وتجنب الحسد، وتنافس مع الآخرين في الخيرات.
إن مقارنة النفس بالآخرين، لا سيما في سياق الإيمان والعمل الصالح، هي أحد التحديات الإنسانية الشائعة التي يمكن أن تؤدي إلى مشاعر مثل الحسد، اليأس، الغرور، أو حتى الرياء. يقدم القرآن الكريم، بتعاليمه العميقة، إرشادات شاملة للتغلب على هذا التحدي والوصول إلى السلام الداخلي والتركيز على المسار الروحي الخاص بالفرد. المفتاح الأساسي هو فهم الحقيقة القرآنية بأن لكل إنسان طريقًا فريدًا أمام الله، وأن معيار الحكم الإلهي هو الجهد الفردي والتقوى الداخلية، وليس المقارنة بإنجازات الآخرين الظاهرية. المبدأ الأول والأكثر أهمية الذي يؤكد عليه القرآن هو مفهوم "القدر" والحكمة الإلهية في تقسيم الأرزاق والمراتب بين العباد. يقول الله تعالى في سورة الزخرف، الآية 32: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ". توضح هذه الآية بوضوح أن توزيع النعم، والمواهب، والفرص، وحتى المراتب الروحية، يتم بناءً على مشيئة الله وحكمته. وبالتالي، فإن مقارنة ما أعطاه الله للآخرين بما أعطانا، يُعد نوعًا من الاعتراض على القدر الإلهي ويزيل سلام الروح. لكل شخص اختباراته ومسؤولياته الخاصة، والمقارنة تمنعنا من التركيز على واجباتنا ومواهبنا. المبدأ الثاني هو التركيز على "المحاسبة الفردية" والمسؤولية الشخصية. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن كل شخص مسؤول عن أفعاله، ويوم القيامة، ستُسأل كل نفس عن أعمالها وحدها. تقول سورة البقرة، الآية 281: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ". هذه الآية والآيات المماثلة تُظهر أن معيار النجاح الحقيقي عند الله هو مدى جهد الفرد وإخلاصه في طريق التقوى، وليس التفوق على الآخرين في الأمور الظاهرية. بدلًا من النظر إلى الآخرين، يجب أن ننظر إلى دواخلنا ونسأل: هل قدمنا أفضل ما لدينا في سبيل الله؟ هل قصرنا في واجباتنا الدينية والأخلاقية؟ الحل القرآني الثالث هو "الشكر". إن الشكر على النعم والعطايا التي وهبها الله لنا هو أحد أقوى الترياقات للمقارنة والحسد. عندما يركز الإنسان على ما يمتلكه ويشكر الله عليه، فإنه يقلل من اهتمامه بما ينقصه أو ما يمتلكه الآخرون. يقول الله في سورة إبراهيم، الآية 7: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ". الشكر لا يمنح الإنسان سلامًا داخليًا فحسب، بل يفتح له أيضًا أبواب رحمة الله وبركته. هذا المنظور يغير نظرتنا من "ما لا أملكه" إلى "ما أملكه ويجب أن أكون شاكرًا عليه". المبدأ الرابع هو تجنب "تمني ما يمتلكه الآخرون". ينهانا القرآن صراحة عن الحسد وتمني امتلاك ما أعطاه الله للآخرين. في سورة النساء، الآية 32، جاء: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا". توضح هذه الآية بوضوح أن رغبات الآخرين وما وهبوا من نعم تخص حساباتهم، وعلينا أن نطلب من الله فضله وكرمه لأنفسنا. هذا النهي لا يمنع الحسد فحسب، بل يدفع الإنسان نحو الدعاء والتوكل على الله ليطلب منه حاجاته، بدلًا من النظر إلى الآخرين بعين الحسرة. النقطة الخامسة هي "المنافسة في الخيرات والأعمال الصالحة"، وليس في الممتلكات الدنيوية أو المظاهر العبادية. يشجع القرآن المؤمنين على المسارعة في فعل الخيرات. في سورة البقرة، الآية 148، نقرأ: "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". تحدد هذه الآية المسار الصحيح للمنافسة: المنافسة في أداء العبادات الخالصة، وخدمة الخلق، واكتساب العلم النافع، والتفوق في كل ما فيه خير ورضا الله. هذا النوع من المنافسة بناء ويؤدي إلى النمو الفردي والجماعي، على عكس المنافسات الدنيوية التي غالبًا ما تكون مصحوبة بالحسرة، والكبر، والنزاع. في الختام، لتجنب مقارنة النفس بالآخرين، يجب دائمًا الانتباه إلى أن معيار التقييم في الإسلام ليس الثروة والمكانة الدنيوية، ولا عدد العبادات الظاهرة، بل "التقوى" و"الإيمان الخالص" الذي يسكن القلوب، ولا يعلمه إلا الله. تقول سورة الحجرات، الآية 13: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". هذه الآية تحدد بوضوح التقوى كمعيار للتفوق، وهو أمر لا يمكن رؤيته ولا مقارنته بالمظاهر. وبالتالي، فإن التركيز على التقوى الشخصية يساعد الإنسان على التحرر من الاكتفاء الذاتي الزائف (إذا اعتبر نفسه متفوقًا) أو الشعور بالدونية (إذا اعتبر نفسه أدنى) ويسعى فقط لكسب رضا الله. يساعدنا هذا النهج على إتمام رحلتنا الروحية بمزيد من السلام والثقة، دون نظرة حسد أو غطرسة للآخرين.
جاء في گلستان سعدي أن درويشًا زاهدًا كان غارقًا في عبادته ورياضته. في يوم من الأيام، رأى درويشًا آخر يبدو في حالة أفضل ولديه قبول أكبر بين الناس. قال الدرويش الأول لنفسه: "ليتني كنت مثله وامتلكت هذه المكانة والتقدير!". هذه الفكرة أزعجته قليلاً. وعندما علم شيخه ومرشده بحاله، قال له: "يا رفيق! ذلك العبد الذي تراه، له مقام حصل عليه بفضل الله وكرمه. وأنت أيضًا لديك فضل قد يكون خفيًا عن ناظريك. اعمل عملك بإخلاص وارفع عينيك عما أعطي للآخرين. فمن دعا الله إلى طريق وشغله بعمل، فهو مقرب في ذلك العمل. فلتكن همتك في نيل رضا الله تعالى وسعادته، وليس في تقليد الآخرين أو الحسد على ما أعطوه. فالله قد خص كل إنسان بشيء وحرمه من آخر، لكي يحتاج الجميع إلى بعضهم البعض وتدور عجلة العالم. فاشتغل بالعمل الذي دعيت إليه وطلب منك، لا بالعمل الذي يقوم به الآخرون وتتحسر عليه."