يعلم القرآن الكريم أن النجاح الحقيقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتواضع الأصيل. التواضع يعزز الشكر، ويحقق النمو المستدام، ويمنع الغرور الذي يعد عقبة رئيسية أمام الازدهار الدنيوي والروحي.
النجاح والتواضع، صفتان قيمتان وقد تبدوان متناقضتين للوهلة الأولى، لكن في تعاليم القرآن الكريم العميقة، هذان المفهومان ليسا متناقضين، بل هما يكملان بعضهما البعض، ويمهدان الطريق لحياة مثمرة وذات معنى. فالقرآن يرشدنا نحو النجاح الحقيقي؛ نجاح لا يقتصر على الثروة والسلطة المادية فحسب، بل يشمل الطمأنينة الداخلية، والفوز في الآخرة، ورضا الله تعالى. هذا النوع الشامل من النجاح متشابك بشكل جوهري مع التواضع الأصيل. يوضح القرآن الكريم صراحة أن كل ما يحققه الإنسان هو نعمة من الله تعالى. هذه النظرة هي التي تؤسس للتواضع. فالإنسان الناجح، من منظور القرآن، ليس من يرى نفسه مستغنيًا ومتفوقًا على الآخرين، بل هو من يعترف دائمًا، على الرغم من بلوغه مراتب عالية مادية أو روحية، بفضل الله عليه، ويقر بأن الرب هو المصدر الأساسي لجميع نجاحاته. إن الغرور والكبر من أعظم آفات النجاح التي يمكن أن تبدد النعم وتزيغ بالإنسان عن سبيل الحق. يقول الله تعالى في سورة الإسراء، الآية 37: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾. هذه الآية تحذر بوضوح من المشي بتكبّر وغرور، ظانًا المرء أنه عظيم؛ لأن هذه الكبرياء لا أساس لها في الواقع وهي لا شيء مقارنة بقوة الله اللامتناهية. يتحقق النجاح الحقيقي عندما يدرك الإنسان مكانته في الكون ويعلم أن كل شيء من الله وإليه يعود. التواضع لا يقضي على الغرور فحسب، بل يساعد الإنسان أيضًا على أن يظل منفتحًا ومتقبلاً في مسار النمو والكمال. فالشخص المتواضع أكثر استعدادًا للتعلم من الآخرين، ويتقبل أخطاءه، ويسعى لتصحيحها. هذه الصفات ضرورية لتحقيق نجاح مستدام. وفي سورة لقمان، الآية 18، يتم التأكيد على أهمية التواضع وتجنب الكبر: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. هذه الآية توضح أن التواضع مهم أيضًا في التعامل مع الناس وفي السلوك اليومي. فالشخص الذي يجمع بين النجاح والتواضع يصبح محبوبًا لدى الناس، ولا يكتفي بالاستفادة من العون الإلهي، بل يقوّي علاقاته الإنسانية أيضًا. من أبرز الأمثلة لفهم هذا التوازن قصة قارون في سورة القصص. فقد وقع قارون في الكبر والغرور بسبب ثروته الهائلة، ونسي أن هذه الثروة هي من الله. لم يشكر الله فحسب، بل نسب الثروة إلى علمه وقدرته. وكانت نتيجة هذا الكبر أن خسف به وبكنوزه الأرض. هذه القصة بمثابة درس وعبرة، تظهر كيف يمكن للنجاح بدون تواضع أن يؤدي إلى الهلاك والدمار. في المقابل، يصف القرآن المؤمنين الحقيقيين الذين يحافظون على تواضعهم حتى في قمة النجاح. ففي سورة المؤمنون، الآيتان 1 و 2، يذكر القرآن أن من صفات المؤمنين الفالحين الخشوع في صلاتهم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. هذا الخشوع في الصلاة يرمز إلى التواضع الشامل أمام الله وفي جميع جوانب الحياة. وهذا التواضع هو الذي يفتح طريق الفلاح والنجاح. لكي تكون ناجحًا ومتواضعًا في نفس الوقت، يمكن استخلاص عدة خطوات رئيسية من التعاليم القرآنية: 1. إدراك المصدر الحقيقي للنعم: تذكر دائمًا أن كل نجاح، علم، ثروة، أو قوة تحصل عليها، هو من الله. هذا الاعتقاد يحرق جذور الغرور ويزرع الشكر في القلب. شكر النعمة يزيدها. ففي سورة إبراهيم، الآية 7، نقرأ: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. هذه الآية تؤكد مباشرة على العلاقة بين الشكر وزيادة النعم (النجاح)، وهو ما ينبع من التواضع. 2. خدمة الخلق: يكتسب النجاح الحقيقي معناه عندما يفيد الآخرين أيضًا. مساعدة المحتاجين، تعليم الآخرين، واستخدام القدرات في سبيل الخير، كلها أمثلة على خدمة الخلق. هذه الأعمال لا تعزز التواضع فحسب، بل تجلب البركة وتزيد النجاح. وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أروع قدوة في التواضع في أوج قوته ونجاحه، وكان دائمًا منشغلاً بخدمة الناس. 3. تجنب المفاخرة والرياء: لا تستخدم نجاحاتك للتباهي أو الفخر. بدلاً من ذلك، دع أفعالك ونتائج عملك تتحدث عنك. فالتواضع في القول والسلوك علامة على النضج والحكمة. 4. تذكر الموت والآخرة: التأمل في الموت والحياة بعده يساعد الإنسان على التخلص من التعلقات الدنيوية والتخلي عن الغرور والكبر. عندما يدرك الإنسان عظمة الله وصغر نفسه أمامه، يتشكل التواضع فيه بشكل طبيعي. 5. التشاور وقبول النقد: الشخص المتواضع يحرص على المشورة ويقبل بصدر رحب النقد والاقتراحات البناءة. هذه الصفة تساعده على معرفة نقاط ضعفه والسعي للتغلب عليها، وهو ما يعد عاملاً في زيادة النجاح. في النهاية، النجاح الحقيقي في الإسلام، مصحوب بالمسؤولية والتواضع. ومن يصل إلى هذه الدرجة، لا يفلح في الدنيا فحسب، بل يمهد لنفسه طريق الفلاح في الآخرة أيضًا. هذا التناغم ليس ممكنًا فحسب، بل هو السبيل الوحيد لتحقيق حياة سامية ومستدامة.
كان تاجرٌ مشهور وناجح، في يوم من الأيام، يشعر بالغرور الشديد بسبب ثروته وذكائه الحاد. كان ينظر إلى الآخرين بتكبر، معتبرًا كل نجاحاته نتيجة لذكائه الخاص. أثناء سفره، التقى بدرويش بسيط ومتواضع يجلس على قارعة الطريق، يشع منه سلام لا يوصف. سخر التاجر بغطرسة قائلاً: "أيها العجوز، أنت لا تملك شيئًا؛ فماذا تعرف عن الحياة؟" ابتسم الدرويش بلطف وأجاب: "أعلم أن الشمس تشرق للجميع، والتراب تحت أقدامنا هو نفسه للملك والمتسول. قد ترفع ثروتك بيتك، لكنها لا ترفع روحك إن غاب التواضع." كلمات الدرويش هزت قلب التاجر. لقد حقق الكثير، لكنه كان يشعر بفراغ. واصل الدرويش: "النجاح الحقيقي، يا صديقي، ليس في مدى ما تملكه، بل في مدى ما تخدمه، ومدى تواضعك في الاعتراف بمصدر كل النعم. فالشجرة الأكثر ثمرًا هي التي تنحني أغصانها أكثر." هذا اللقاء ألان قلب التاجر. بدأ يشارك ثروته، ويعامل موظفيه بلطف، وتذكر دائمًا كلمات الدرويش. فأصبح نجاحه، بدلاً من أن يجعله مغرورًا، مصدرًا للخير، ووجد سلامًا يفوق بكثير أي ثروة يمكن شراؤها.