التمييز بين الابتلاء الإلهي ونتائج أعمالنا يتطلب التأمل الداخلي، والتوبة، والصبر؛ فكثير من المصائب هي نتيجة لأفعالنا، وبعضها اختبار لإيماننا ورفع لدرجاتنا.
إن سؤال كيفية التمييز بين ما يصيبنا من ابتلاء إلهي وما هو نتيجة مباشرة لأعمالنا، هو أحد أعمق وأكثر التساؤلات تحديًا التي تشغل ذهن المؤمن باستمرار. هذا السؤال ليس مجرد شاغل فكري، بل هو دليل يهدي طريق الحياة ويصحح نظرة الإنسان إلى القدر واختياره. وقد تناول القرآن الكريم، بدقة متناهية وعمق، كلاً من "الابتلاء الإلهي" و"جزاء الأعمال"، مقدمًا حلولًا للتمييز والتعامل الصحيح معهما. في البداية، يجب الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن الحياة الدنيا للمؤمن هي في الأساس سلسلة من الاختبارات والامتحانات. يُوضح الله تعالى في آيات عديدة هذه الحقيقة، مؤكدًا أن البشر يوضعون في بوتقة الاختبار لقياس صبرهم وشكرهم وثباتهم وعمق إيمانهم. يمكن أن تظهر هذه الابتلاءات بأشكال متنوعة: أحيانًا تكون في شكل شدائد، خوف، جوع، نقص في الأموال والأنفس والثمرات (كما في الآية 155 من سورة البقرة)، وأحيانًا أخرى تكون في شكل نعم ووفرة (مثل اختبار الشكر). الهدف من هذه الامتحانات ليس مجرد إحداث المشقة، بل هو تنقية الروح، ورفع الدرجات المعنوية، وتقوية الإيمان، وكشف حقائق الوجود الإنساني. في سورة العنكبوت، الآية 2، يقول الله: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ). هذه الآية توضح بجلاء أن الاختبار جزء لا يتجزأ من مسار الإيمان. لذلك، إذا واجهت صعوبة لا تجد لها سببًا واضحًا ينبع من أخطائك، فمن المحتمل جدًا أن يكون هذا ابتلاءً إلهيًا لنموك وكمال نفسك. في هذه الحالة، سلاح المؤمن هو الصبر، والتوكل على الله، والثبات على الحق. إن مثل هذه الابتلاءات تقرب الإنسان من الله وتهيئه لمقامات أعلى. الحكمة الإلهية في هذه البلايا هي تسمو بالروح وتصقل الإيمان، حتى يصل الإنسان إلى درجة من المعرفة واليقين يرى فيها الله حاضرًا وناظرًا في اليسر والعسر على حد سواء. من ناحية أخرى، جزء كبير مما يصيبنا هو بلا شك نتيجة مباشرة وطبيعية لأفعالنا وخياراتنا. يؤكد القرآن الكريم بشدة مبدأ "جزاء الأعمال". ففي سورة الشورى، الآية 30، يقول الله صراحة: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). هذه الآية تُقدم قاعدة عامة وحيوية: العديد من المشاكل، الأمراض، الأزمات المالية، والقضايا الاجتماعية التي نواجهها، تعود جذورها إلى تقصيرنا، أو ذنوبنا، أو قراراتنا الخاطئة، أو حتى اختياراتنا غير الحكيمة في الأمور الدنيوية. قد يشمل هذا ترك الواجبات، ارتكاب المحرمات، ظلم الآخرين، إهمال الحقوق الإلهية والإنسانية، أو حتى الغفلة عن التدبير والعقلانية في شؤون الدنيا. في هذه الحالات، تكون المصيبة ليست مجرد نتيجة طبيعية، بل هي إنذار وفرصة للاستيقاظ والعودة إلى المسار الصحيح. يقول الله تعالى في سورة النساء، الآية 79: "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). هذه الآية تُظهر بجمال مسؤولية الإنسان تجاه ما يصيبه، وتذكرنا بأن الإنسان مسؤول عن أفعاله وأن الله عادل. ولكن كيف يمكن التمييز بين هذين الأمرين؟ 1. محاسبة النفس والتدقيق الذاتي العميق: الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي النظر إلى الداخل وتقييم أعمالنا بصدق. يجب أن نسأل أنفسنا بصراحة تامة: هل قمت بعمل في الماضي قد يكون أدى إلى هذه النتيجة؟ هل ظلمت أحدًا، سواء بالقول أو بالفعل؟ هل ارتكبت ذنبًا يتطلب التوبة، وبدأت آثاره تظهر الآن؟ إذا كانت الإجابة نعم، فمن المرجح أن تكون هذه المشكلة نتيجة لأفعالك، وهي فرصة ثمينة للتوبة وجبر ما فات. يقول الإمام علي (ع): "كلما كنتم في نعمة فاشكروا، وكلما ابتليتم فاستغفروا." هذا القول يوضح أنه في الشدائد يجب البحث عن جذورها في الأعمال والعودة إلى الله بتوبة صادقة وندم حقيقي. 2. هادفة الشدة ومنشأها: إذا لم تجد، بعد التدقيق الذاتي الشامل، أي خطأ واضح أدى إلى هذا الوضع، وكنت واثقًا من أنك كنت مجتهدًا في طاعتك لله ومراعاتك لحقوقه، ولم تقصر في واجباتك، فعندئذ يمكن أن تكون هذه الشدة ابتلاءً إلهيًا. في هذا النوع من الابتلاء، يكون الهدف اختبار إيمانك وصبرك ورفع مقامك في نظر الله. غالبًا ما تحدث هذه البلايا دون مقدمة من ذنب ارتكبته أنت، وتهدف إلى ارتقائك لا معاقبتك. هذه الابتلاءات تعمل كغربال لتظهر مدى الإخلاص والثبات في الإيمان. 3. طبيعة رد فعلك وتوجهك الروحي: يمكن أن يكون رد فعلك تجاه الشدة علامة مهمة أيضًا. إذا قادتك المصيبة إلى التوبة، والإصلاح، والعودة الأعمق إلى الله، فهذا يشير إلى أن الله يريد أن يوقظك، وقد يكون هذا نتيجة لأفعالك التي، برحمة وحكمة الله، تحولت إلى فرصة للتصحيح والنمو الروحي. هذه الأنواع من المشاكل تعمل كجرس إنذار. أما إذا نزلت بك الشدة، رغم نقاءك وبراءتك الواضحة، وقادتك نحو المزيد من الصبر والشكر والتوكل على الله، وعززت إيمانك، فهذا دليل على ابتلاء إلهي يهدف إلى رفع قدرك وتقوية روحك. 4. الاستغفار والتوبة كحل شامل: على أية حال، سواء كانت الشدة ابتلاءً أو نتيجة لأعمال، فإن الاستغفار والتوبة لا يضران أبدًا. لأن الاستغفار والعودة إلى الله يمحوان الذنوب، ويجلبان رحمة الله، ويجلبان السكينة إلى القلب. حتى في الابتلاء الإلهي، يمكن للاستغفار أن يساعد الإنسان على تجاوزه ويسهل الأمور، لأن الله يحب التوابين ويجعل لهم مخرجًا. 5. النظرة الإيجابية والبناءة للأمور: في كلتا الحالتين، يجب على المؤمن أن يحافظ على نظرة إيجابية وبناءة تجاه الأحداث. إذا كان ابتلاءً، فعليه أن يتحمله بالصبر والمثابرة والتوكل على الله، مع العلم بأن "إن مع العسر يسراً" (القرآن 94:5). وإذا كان نتيجة لأعمال، فعليه أن يراه فرصة للإصلاح والتعويض والنمو، وأن يتعلم منها حتى لا يكرر نفس الأخطاء في المستقبل. لا توجد مشكلة للمؤمن عبثًا؛ فهي إما تكفير لخطأ، أو رفع لدرجة، أو إيقاظ وبصيرة جديدة. في الختام، يساعدنا فهم هذه الفروقات على تحمل مسؤولية أكبر تجاه حياتنا والابتعاد عن لوم القدر أو أنفسنا بشكل غير مبرر. والأهم من ذلك، أنه يجعلنا نسير دائمًا في طريق التوبة والاستغفار، وفي أوقات الشدائد، نلجأ إلى الله ونطلب منه العون والمساعدة، لأنه خير معين وهادٍ. في الواقع، سواء كان ابتلاءً أو نتيجة لأعمال، فكلاهما ينبعان من حكمة الله وعدله، وكلاهما فرصة ثمينة للتقرب إليه أكثر ولسمو الروح الإنسانية.
يحكى في الأزمنة القديمة عن رجل ورع وزاهد كان يجلس على ضفة نهر، وقد غلب على قلبه الحزن من تقلبات الدهر. وقد تحمل في حياته الكثير من المصاعب، فظن أن كل ذلك ابتلاءات إلهية، وكان يشكو في داخله. مر به شيخ حكيم مسن، فرآه يتمتم لنفسه ويشكو سوء حظه. فاقترب منه بلطف وسأله: "يا فتى، ما الذي أصابك هكذا؟" فأجاب الرجل الورع: "يا أيها الشيخ الحكيم، لقد اجتهدت لسنوات في الطاعة والعبادة، ولكن البلايا تهطل علي من كل حدب وصوب. لا أعلم أهذه ابتلاءات إلهية أم نتيجة لأعمالي؟" فابتسم الشيخ الحكيم وقال: "يا ولدي، اعلم أن الله عادل. أحيانًا تكون المحن لاختبار صبر الإنسان ورفع مقامه، وأحيانًا تكون انعكاسًا ونتيجة طبيعية لأفعالنا. إذا نظرت بعمق، ستجد أن بعض الصعوبات هي ثمار بذور زرعتها أنت بنفسك، وبعضها الآخر سلالم للوصول إلى القرب الإلهي. التمييز بين الاثنين يكمن في التأمل العميق ومحاسبة النفس. انظر هل كان هناك تقصير في أعمالك؟ هل ارتكبت ذنبًا؟ إذا كانت إجابتك بالنفي، فاعلم أن هذا اختبار ويحمل ثوابًا عظيمًا. أما إذا رأيت أنك كنت المذنب، فتب واصلح من نفسك. كلا الحالتين فرصة للنمو والتقرب إلى الحق." فاستمع الشاب إلى هذه الكلمات ودخل في تأمل عميق وعزم في قلبه على إصلاح أعماله، ومنذ ذلك الحين، نظر إلى أحداث الحياة بمنظور أوسع.