يعلمنا القرآن، من خلال التأكيد على الصبر النشط، والتوكل، والمسؤولية الشخصية، والأمل في الرحمة الإلهية، كيفية الابتعاد عن الشعور بالضحية والتحكم في حياتنا.
أيها الصديق العزيز، إن الشعور بالضحية هو تجربة ثقيلة ومُنهِكة يمكن أن تستنزف الروح والعقل. غالبًا ما يصاحب هذا الشعور اليأس والعجز والاعتقاد بأن السيطرة على الحياة قد فُقدت. في مثل هذه الظروف، قد يرى الفرد نفسه عاجزًا ولا حول له أمام التحديات والمشكلات، ويعتقد أن القدر يدفعه في اتجاه غير مرغوب فيه. لكن إذا نظرنا إلى هذه القضية من منظور قرآني، فسنجد أن تعاليم الإسلام مليئة بمفاهيم التمكين والأمل والمسؤولية الفردية، والتي تقف في تعارض مباشر مع الشعور بالضحية. القرآن الكريم يُقدم الإنسان ككائن كريم وذو إرادة حرة، يمتلك القدرة على الاختيار والتأثير على مصيره في أي ظرف، بالطبع مع التوكل والاستعانة بالله تعالى. لم يُدعَ في القرآن أبدًا إلى اليأس أو الاستسلام التام للمشكلات، بل دائمًا ما يؤكد على الصبر والشكر والجهد والتوكل. الخطوة القرآنية الأولى للتحرر من الشعور بالضحية هي "الصبر". الصبر في القرآن ليس مجرد تحمل سلبي، بل هو ثبات نشط، وصمود على طريق الحق، والحفاظ على الهدوء في مواجهة الشدائد. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 153: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين). تعلمنا هذه الآية أن الصبر والصلاة هما أداتان قويتان للتغلب على الصعوبات. يساعدنا الصبر على تغيير منظورنا؛ فبدلاً من رؤية أنفسنا ضحايا للظروف، نراها فرصة للنمو واختبار الإيمان. والصلاة أيضًا هي اتصال مباشر بالخالق، يحيي في قلوبنا السكينة والقوة الداخلية والشعور بالدعم الإلهي. عندما يتسلح الإنسان بهذه الأدوات، يفسح الشعور بالعجز والضعف المجال للتمكين والأمل. هذا النوع من الصبر النشط يعني التحمل مع البصيرة والتخطيط والجهد المستمر، وليس مجرد انتظار أن تتغير الأمور من تلقاء نفسها. إنه ينمي المرونة والعقلية الاستباقية، وهما أمران ضروريان للتحرر من عقلية الضحية. المبدأ الثاني المهم هو "التوكل" على الله. التوكل لا يعني التخلي عن المسؤولية أو الخمول؛ بل يعني بذل كل جهد وسعي ممكن، ثم تسليم النتيجة للمشيئة الإلهية. في سورة الطلاق، الآية 3، ورد: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً). تمنحنا هذه الآية الثقة بأنه بالتوكل الصادق، سيكون الله سندًا لنا. غالبًا ما ينبع الشعور بالضحية من الخوف من المستقبل، والخوف من الفشل، والشعور بعدم السيطرة على الأحداث. التوكل يزيل هذه المخاوف؛ لأن الإنسان يعلم أنه قد بذل قصارى جهده وسلم النتيجة لقوة عليا تريد له الأفضل. يتيح هذا المنظور للفرد أن يواصل جهده بأمل وسلام، بدلاً من الغرق في الأفكار السلبية. إنه يحول الخوف إلى اعتماد، والقلق إلى هدوء داخلي، ويوفر أساسًا متينًا للتغلب على التحديات. التعاليم القرآنية الثالثة تؤكد على "التغيير من الداخل" والمسؤولية الفردية. يشير القرآن مرارًا إلى أن مصير الإنسان يكمن إلى حد كبير في يديه. في سورة الرعد، الآية 11، نقرأ: "...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..." (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). تحمل هذه الآية رسالة قوية ضد عقلية الضحية. فبدلاً من إلقاء اللوم على الحظ أو القدر أو الآخرين، يدعونا القرآن إلى النظر إلى داخلنا ومعرفة ما يمكننا تغييره: نظرتنا، أفعالنا، أو ردود أفعالنا. تذكرنا هذه الآية بأن قوة التحول تبدأ من داخلنا. عندما نتحمل مسؤولية خياراتنا وردود أفعالنا، نخرج من دائرة عجز الضحية وندخل دائرة القوة والتحكم. هذا التغيير الداخلي، حتى لو كانت الظروف الخارجية غير مواتية، يمكّننا من إيجاد طريقة للتغلب عليها أو تحسينها، بدلاً من أن نغرق فيها. هذا التمكين الذاتي أمر بالغ الأهمية للتحرر الحقيقي. المبدأ الرابع هو "الشكر". الشعور بالضحية غالبًا ما يجعل الفرد يركز فقط على نواقصه وما يفتقر إليه، ويتجاهل النعم الموجودة. وقد أكد القرآن مرارًا على أهمية الشكر. في سورة إبراهيم، الآية 7، نقرأ: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). الشكر لا يزيد النعم فحسب، بل يغير منظورنا من "ضحية للظروف" إلى "مالك للنعم". عندما نركز على ما لدينا، نشعر بالتمكين والثراء، حتى لو كنا ظاهريًا نواجه صعوبات. هذا التغيير في المنظور يحررنا من قبضة اليأس والندم ويقودنا نحو حالة من الرضا والقوة الداخلية. يمكن أن يؤدي الممارسة اليومية للشكر، حتى على أصغر النعم، إلى القضاء التدريجي على عقلية الضحية وملء مكانها بمنظور إيجابي وبناء. إنه يعيد توجيه العقل نحو التقدير بعيدًا عن الاستياء. وأخيرًا، يؤكد القرآن على "عدم اليأس من رحمة الله". من أعمق مظاهر الشعور بالضحية هو اليأس المطلق. ولكن الله تعالى يقول في سورة الزمر، الآية 53: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). على الرغم من أن هذه الآية تتحدث عن مغفرة الذنوب، إلا أن رسالتها العامة هي الأمل في رحمة الله الواسعة، والتي تمتد إلى جميع جوانب الحياة. حتى في أوج الصعوبات، لا ينبغي اليأس من رحمة الله وفرجه. هذا الأمل هو الوقود اللازم لمواصلة السعي والمقاومة وإيجاد الحلول. الشخص الذي يأمل في رحمة الله لا يرى نفسه أبدًا ضحية مطلقة؛ بل يحتفظ دائمًا بنافذة من الأمل والإمكانية لنفسه. هذا الأمل هو القوة الدافعة التي تسمح للإنسان بتجاوز القيود ومواصلة طريقه نحو الحرية والتمكين. إنه يعزز الاعتقاد بأن كل محنة تحمل درسًا وإمكانية للنمو. باختصار، يقدم القرآن الكريم، من خلال التأكيد على الصبر النشط، والتوكل الصحيح على الله، والمسؤولية الشخصية والتغيير الداخلي، والشكر، والأمل في الرحمة الإلهية، إطارًا قويًا للتغلب على الشعور بالضحية. هذه التعاليم ليست فقط وسيلة لتحسين الحالة النفسية للفرد، بل تساعده أيضًا على أداء دور نشط وبناء في حياته ومجتمعه، وتحريره من أي شعور بالضعف والعجز. هذا المسار هو رحلة روحية ونفسية، ومن خلال الاتصال بالقوة الإلهية المطلقة وتفعيل الإمكانات الكامنة في الذات، يحرر الإنسان من القيود الذهنية لـ "كونه ضحية".
يُروى أن ملكًا ثريًا وقويًا، رأى في أحد الأيام درويشًا، رغم ثيابه البالية ومظهره البسيط، كانت على وجهه سَكينة وراحة في قلبه. سأل الملك الذي كان يعاني من هموم ملكه: "أيها الدرويش، كيف تكون بهذا القدر من الرضا والسعادة رغم كل هذا الفقر؟" أجاب الدرويش بابتسامة دافئة: "أيها الملك، لقد اخترت ألا أكون أسيرًا لتقلبات الدنيا. إن كان لدي شيء، فأنا شاكر؛ وإن لم يكن لدي، فأنا صابر وراضٍ. قلبي ليس عبدًا لما يمكن أن يفقده، ولا ضحية لما لا يمتلكه. الفقر الحقيقي يكمن في الروح التي تغرق باستمرار في الرغبات والشكاوى، وليس في غياب متاع الدنيا." تأمل الملك مليًا في كلمات الدرويش وأدرك أنه بكل قوته وثروته، كان يشعر أحيانًا بأنه أكثر أسراً وضحية للظروف من ذلك الدرويش.