الرغبة الدنيوية السليمة هي الانتفاع بنعمها كوسيلة للوصول إلى الآخرة ورضا الله، بينما التعلق غير الصحي يجعل الدنيا غاية، مما يؤدي إلى الغفلة والطمع. يكمن التمييز في النية، وعدم تعلق القلب، وإعطاء الأولوية للآخرة.
من منظور القرآن الكريم، يعتبر التمييز بين الاهتمام الطبيعي والمشروع بالحياة الدنيا والتعلق غير الصحي والضار بها أحد التحديات الأساسية، وفي الوقت نفسه، أحد أهم التعاليم الدينية التي تحدد مسار سعادة الإنسان. فالقرآن لا ينهى عن امتلاك الدنيا أو الاستمتاع بنعمها الحلال، بل يشجع مراراً على الاستخدام الصحيح والشكر على هذه النعم. فالله تعالى خلق الدنيا للإنسان لينتفع بها ويعمرها ويستخدمها كجسر للوصول إلى الآخرة. هذا المنظور يرى "الاهتمام بالدنيا" كحاجة طبيعية وأداة لحياة هادفة. على سبيل المثال، في سورة القصص، الآية 77، يقول الله تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا". هذه الآية توضح بجلاء أن الاستفادة من الدنيا والتمتع بها جائز، ولكن لا ينبغي أن تكون هي الهدف الرئيسي والنهائي؛ بل يجب أن تكون وسيلة للوصول إلى هدف أكبر وهو الآخرة. من ناحية أخرى، يتشكل "التعلق غير الصحي" بالدنيا عندما تصبح الدنيا ومظاهرها هي الهدف الأساسي للحياة. في هذه الحالة، بدلاً من أن يرى الإنسان الدنيا وسيلة للوصول إلى الله والآخرة، يجعلها غاية آماله وأمانيه. هذا التعلق المفرط والمضلل يؤدي إلى نسيان الله، والإهمال للواجبات الدينية والأخلاقية، والطمع، والحسد، والتنافسات العبثية، وفي النهاية إلى خراب الحياة الدنيا والآخرة. وقد حذر القرآن الكريم مراراً من مخاطر هذا التعلق. في سورة الحديد، الآية 20، يقول الله تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ". هذه الآية تصف حال أولئك الذين جعلوا الدنيا هدفاً لهم، ورأوها مكاناً للعب واللهو والتكاثر، لا مزرعة للآخرة. هؤلاء الأفراد ينغمسون في جمع المال والمكانة لدرجة أنه لا يبقى مكان للروحانيات والقيم الإلهية في قلوبهم. هذا الإفراط في التعلق بالدنيا يمنع الإنسان من الوصول إلى السلام الحقيقي وفهم الغاية من خلقه. يمكن تحليل العلامات الرئيسية للتمييز بين هاتين الحالتين في عدة أبعاد: أولاً، "تحديد الهدف". في الاهتمام المشروع بالدنيا، الهدف النهائي هو رضا الله وتحقيق سعادة الآخرة، والدنيا هي وسيلة لتحقيق هذا الهدف. أما في التعلق غير الصحي، فالهدف النهائي هو الدنيا نفسها وملذاتها العابرة. ثانياً، "درجة التبعية والسكينة". الفرد الذي لديه اهتمام صحي بالدنيا لا يفقد سكينته إذا خسر مالاً أو منصباً، لأن قلبه يتوكل على الله. أما المتعلقون بالدنيا تعلقاً غير صحي فيصابون بالقلق والاكتئاب واليأس بأدنى خسارة دنيوية، لأنهم يرون كل وجودهم وسعادتهم في الدنيا. ثالثاً، "طريقة الكسب والإنفاق". الشخص ذو الاهتمام الصحي يكسب المال بطرق حلال وينفقه في سبيل الله ومساعدة الآخرين ويتجنب الحرام. أما المتعلق بالدنيا تعلقاً غير صحي فيستخدم أي وسيلة لجمع الثروة ويقصر في الإنفاق والحقوق الإلهية. ويقدم القرآن الكريم حلولاً عملية للتحرر من التعلق غير الصحي بالدنيا. من أهم هذه الحلول "تذكر المعاد والآخرة". في سورة الأعلى، الآيتان 16 و 17، يقول الله تعالى: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى". هذه الآيات تذكر بوضوح بأولوية الآخرة. عندما يعلم الإنسان أن هذه الدنيا زائلة وأن هناك داراً أبدية تنتظره، تتغير نظرته للدنيا ويحجم عن التعلق المفرط بها. حل آخر هو "الشكر والقناعة". الشكر على النعم الموجودة والقناعة بما رزق الله يمنعان الإنسان من الطمع المفرط. وكذلك، "الإنفاق والصدقة" يقللان من التعلق بالمال ويعززان روح البذل والإيثار. هذا العمل يجعل الإنسان يعلم أن المال ليس له وحده ويجب عليه مراعاة حقوق الآخرين أيضاً. باختصار، يكمن التمييز بين الاهتمام بالدنيا والتعلق غير الصحي فيها في النية، وتحديد الهدف، وتأثير ذلك على روح الإنسان ونفسه وعمله. فالاهتمام المشروع بالدنيا يدفع الإنسان نحو الصلاح والشكر والاستفادة من النعم لغرض أكبر (وهو رضا الله والآخرة). بينما التعلق غير الصحي يقوده إلى فخ الطمع والغفلة والفراغ. طريق النجاة يكمن في التوازن، وتذكر الآخرة، وجعل رضا الله على رأس جميع الأمور. يعلم القرآن الكريم هذا التوازن ليتمكن الإنسان من الاستفادة من النعم الدنيوية وفي الوقت نفسه ضمان سعادته الأخروية وتجنب الوقوع في فخ الإفراط والتفريط. في النهاية، يجب أن يكون قلب الإنسان متعلقاً بخالقه لا بمخلوقاته ومظاهره الزائلة. هذا هو التمييز الأساسي الذي يقدمه القرآن لسعادة البشر.
في قديم الزمان، عاش رجل ثري في مدينة عظيمة. كان يمتلك بيوتاً فخمة وجمع كنوزاً وفيرة. لكن كلما زاد ماله، زاد قلقه من فقدانه، ولم يجد له نوماً ولا راحة. يروي سعدي، بأسلوبه البليغ، قصة في بستانه عن رجل كان يملك شجرة في بستانه تثمر فواكه وفيرة. لكن الرجل لم يستفد أبداً من هذه الفواكه، وكان كل تفكيره ينصب على تخزينها لغد أو بعد غد، حتى فسدت الفواكه ولم يبقَ له شيء. كانت هذه الحكاية تذكر بحال ذلك الرجل الثري. في يوم من الأيام، قال له رجل حكيم، علم بحاله: 'يا صديقي، أظننت أن ثروتك ستجلب لك السلام؟ لا! هذه أعباء تثقل كاهل قلبك. الدنيا كماء البحر المالح؛ كلما شربت منه أكثر، ازددت عطشاً. استمتع بنعم الله، ولكن لا تعلق قلبك بها، فإن الذي يبقى هو أعمالك الصالحة لا أموالك. من اليوم، أنفق جزءاً من ثروتك في سبيل الله ومساعدة المحتاجين، وسترى كيف يخف حمل قلبك ويهبط عليك سلام حقيقي.' استمع الرجل الثري لنصيحة الشيخ وبدأ بالإنفاق. شيئاً فشيئاً، رأى كيف أن السلام قد ترسخ في كيانه، ونشأ في قلبه لذة أعمق من جمع المال. لقد فهم أن الدنيا مزرعة وأن حصادها يجنيه في الآخرة، وليس أن تكون المزرعة نفسها هي الهدف.