لخوف العذاب الإلهي دون يأس، يجب الموازنة بين 'الخوف' (خشية عدل الله) و'الرجاء' (الأمل في رحمته الواسعة). هذا التوازن يحث على تجنب الذنوب بالخوف، ويحفز على التوبة الصادقة والسعي المستمر بالرجاء، مما يمنع اليأس والغرور.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والشاملة، تعد مسألة الخوف من العذاب الإلهي مع الحفاظ في الوقت نفسه على الرجاء في رحمة الرب، أحد أرق وأهم التوازنات الروحية والإيمانية. هذه الحالة، المعروفة في المصطلح الإسلامي بـ «الخوف والرجاء»، هي توازن حيوي بين الامتناع عن الذنوب والسعي للتقرب إلى الله، وفي الوقت نفسه الثقة التامة بمغفرته اللامتناهية. هذا التوازن ليس ضروريًا فقط لسلامة الروح وطمأنينة قلب المؤمن، بل هو أيضًا دافع قوي للعمل الصالح والتوبة من الذنوب. الخوف من العذاب الإلهي (الخوف) لا يعني الرعب أو القلق المشلّ؛ بل هو نوع من «الخشية» والإجلال أمام عظمة الله المطلقة وعدالته وقدرته. ينبع هذا الخوف من فهم دقيق لصفات الله والوعي بالعواقب الوخيمة للذنوب والعصيان. فالله في آيات عديدة، يتحدث صراحة عن العذاب الشديد والعقوبات المؤلمة للمتجاوزين والظالمين. الغرض من هذه التحذيرات ليس غرس الخوف، بل إيقاظ الضمير وتنبيه الإنسان للابتعاد عن مسار الهلاك والاتجاه نحو الهداية والخلاص. يصف القرآن النار والعقوبات الأخروية وصعوبات يوم القيامة، ليُذكّر الإنسان بأن كل عمل له حساب، وأن الدنيا ممر تظهر نتائجه في الآخرة. يجب أن يكون هذا الخوف عاملًا رادعًا عن الذنب، وعن التهاون في العبادة، وعن اللامبالاة تجاه حقوق العباد وحقوق الله. فعلى سبيل المثال، يدفع الخوف من العقوبات الإلهية الإنسان إلى تجنب الظلم والرياء والغيبة، وجميع الرذائل الأخلاقية، ويدفعه إلى الجد والاجتهاد في أداء الواجبات وترك المحرمات. هذا الخوف هو نوع من اليقظة الدائمة لحضور الله الرقيب ويوم الحساب، مما يجعل الإنسان في كل لحظة من حياته يراقب أعماله ويتجنب الإفراط أو التفريط. كما يؤدي هذا الخوف إلى التواضع والخضوع أمام الرب، ويزيل الكبر والغرور من قلب الإنسان. من ناحية أخرى، فإن الرجاء في رحمة الله يضمن ألا يتحول الخوف من العذاب إلى يأس وقنوط. يؤكد القرآن الكريم باستمرار على رحمة الله الواسعة، وغفرانه اللامحدود، وقبوله التوبة. هذا الرجاء يمنح الإنسان الطمأنينة بأنه حتى لو ارتكب ذنبًا عظيمًا، فإن أبواب التوبة والعودة إلى الرب لا تُغلق أبدًا. قال الله تعالى في القرآن الكريم: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (سورة الزمر، الآية 53). هذه الآية هي منارة هداية لجميع الذين، بسبب كثرة ذنوبهم، لا يرون أنفسهم مستحقين للمغفرة وقد وقعوا في دوامة اليأس. يمنح الرجاء في رحمة الله الإنسان القوة ليقوم بعد كل زلة، ويتوب، ويخطو بخطوات ثابتة نحو العمل الصالح. هذا الرجاء هو إيمان بهذه الحقيقة أن الله ليس فقط ستار للعيوب، بل يحب المذنب التائب ويمهد له طريق العودة. كما يدفع الرجاء الإنسان إلى التحلي بالصبر والثبات في مواجهة الشدائد والمصائب، وأن يكون متفائلًا بوعود الله بجزاء الصابرين والمتقين. التوازن بين الخوف والرجاء هو المفتاح الأساسي. يجب أن يكون قلب المؤمن كطائر يطير بجناحين: الخوف والرجاء. إذا كُسِر أحد هذين الجناحين، أصبح الطيران مستحيلًا، وإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، سينحرف الطائر عن مساره. فالخوف من العذاب دون رجاء في الرحمة يؤدي إلى اليأس المطلق والاكتئاب وترك العبادة، بل وحتى الكفر؛ لأن الإنسان يرى نفسه خارج دائرة اللطف الإلهي ولا يجد دافعًا للسعي والتغيير. وفي المقابل، فإن الرجاء في الرحمة دون خوف من العذاب يمكن أن يؤدي إلى الغرور والتساهل في الذنب والاعتقاد الباطل بأن «الله سيغفر»، مما يقود الإنسان في النهاية إلى الهلاك. فقد يتغافل مثل هذا الشخص عن التوبة، معتمدًا فقط على الرحمة الإلهية، وينغمس في الذنوب. لإقامة هذا التوازن والحفاظ عليه، تذكر العديد من المناهج العملية في القرآن والسنة النبوية: 1. المعرفة الإلهية: الفهم العميق لصفات الله، فهو «شديد العقاب» و«غفور رحيم». كلما ازداد الإنسان معرفة بربه، اهتز من قوته وعدله، وفي نفس الوقت اطمأن لكرمه ومغفرته. 2. التوبة والاستغفار المستمران: التوبة هي الجسر الذي يربط المذنب بالله. كلما استولى عليه الخوف من الذنب، فليفتح لنفسه باب الأمل بالتوبة الصادقة والاستغفار. التوبة لا تطهر الذنوب فحسب، بل تزيد من محبة الله وتجلب السكينة للقلب. 3. التدبر في آيات القرآن: دراسة وتأمل الآيات التي تشير إلى العذاب والرحمة على حد سواء. هذا التدبر يساعد على فهم شامل وعميق لتعاليم الله ويمنع النظرة الأحادية الجانب. 4. الدعاء والابتهال: طلب المغفرة والرحمة من الله، وفي نفس الوقت الاستعاذة به من العذاب. الدعاء يقوي شعور الحاجة والاعتماد على الرب. 5. محاسبة النفس: مراجعة الأعمال بانتظام، ربما كل ليلة أو من حين لآخر؛ تذكر الحسنات وشكر الله عليها، ومعرفة التقصير والذنوب للتوبة والتعويض. هذه المحاسبة تحول الخوف من العذاب من مفهوم تجريدي إلى أمر عملي وملموس. 6. صحبة الصالحين: مصاحبة الأفراد الذين يمتلكون توازن الخوف والرجاء، والذين ينمّون هذين الجناحين في أقوالهم وأفعالهم، مؤثرة للغاية. فهؤلاء الأفراد يشكلون نموذجًا عمليًا لتحقيق هذا التوازن. في الختام، هذا التوازن بين الخوف والرجاء هو جوهر الحياة الإيمانية. فالمؤمن لا يخاف من العذاب لدرجة أن يتخلى عن السعي، ولا يعتمد على الرحمة لدرجة أن ينغمس في الذنب. بل يسير دائمًا في طريق الاعتدال؛ فمع كل ذنب، يندم ويتوب، ومع كل عمل صالح، يشكر ويأمل في ثواب الله. هذه الحالة الروحية تمنح الإنسان سكينة عميقة؛ لأنه يعلم أنه تحت رعاية رب عادل ورحيم بلا حدود، ولن تذهب أي خطوة في سبيل الهداية والتوبة بلا أجر أو تأثير.
يُحكى أن رجلاً ضل طريقه في صحراء واسعة، وكان قلبه يرتجف خوفًا من كثرة ذنوبه ومعاصيه. ظن أنه لا سبيل لنجاته وأن العذاب وحده هو مصيره. خنق اليأس صدره كالجبل الثقيل. في تلك الحالة، رأى شيخًا حكيمًا يجلس بجانب نبع ماء. روى الرجل بحسرة قصة ذنوبه وخوفه. ابتسم الشيخ وقال: «يا بني، كم من ضال عاد بنداء التوبة واستفاد من الرحمة الإلهية، وكم من عابد ضل الطريق بسبب غروره. إن الخوف من العقاب يمنعك من تكرار الذنوب، لكن اليأس من الرحمة ذنب أكبر. بحر المغفرة الإلهية لا حدود له. خف حتى لا ترتكب خطأ، ولكن لا تيأس، فمتى تبت، فإنه التواب الرحيم.» عند سماعه هذه الكلمات الحكيمة، تنهد الرجل بارتياح. انهمرت الدموع من عينيه؛ تاب عن ماضيه، وبقلب مليء بالأمل وعزيمة متجددة، بدأ رحلته من جديد ووصل أخيرًا إلى شاطئ النجاة.