في عصر السرعة، يُكتسب السلام الإيماني بذكر الله، والصبر، والصلاة، والتوكل على الله، وفعل الخيرات. هذه المبادئ القرآنية توفر مرساة للقلب في مواجهة عواصف الحياة الحديثة.
في العصر الحالي الذي تتصدر فيه السرعة المشهد، وتكتظ حياتنا اليومية بضغوط العمل المستمرة والاجتماعية والمعلوماتية، أصبح العثور على السلام الداخلي والإيماني تحديًا أكثر من أي وقت مضى. لكن القرآن الكريم، هذا الكتاب السماوي والمرشد الشامل للبشرية، يقدم حلولًا عميقة ومستدامة لتحقيق طمأنينة القلب والروح في جميع الظروف، حتى في ذروة السرعة وصخب الدنيا. هذا السلام ليس صمتًا خارجيًا، بل هو حالة من الطمأنينة والرضا الداخلي تنبع من اتصال عميق بخالق الكون. أحد أهم التعاليم القرآنية لتحقيق السلام هو "ذكر الله". يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية تعبر عن مبدأ أساسي: السلام الحقيقي لا يكمن في اكتساب المزيد من الماديات، ولا في تسريع الأمور الدنيوية، ولا في الهروب من الحقائق، بل يكمن في إقامة اتصال مستمر وعميق بمصدر السلام، وهو الله سبحانه وتعالى. ذكر الله يتخذ أشكالاً متنوعة؛ من الصلوات الخمس التي هي عماد الدين ونقطة الذروة في الاتصال بالمعبود، إلى تلاوة القرآن، والدعاء، والتسبيح، وحتى التفكر والتأمل في عظمة الخلق. كل من هذه الأمور يفتح نافذة نحو السلام الداخلي ويمنع الإنسان من الغرق في تقلبات الحياة اليومية. والصلاة، كفاصل مقدس ومنتظم في زحمة اليوم، توفر فرصة لقطع الاتصال بالدنيا والاتصال الصادق بالله. هذا الاتصال يمنح الإنسان قوة للعودة إلى شؤون الحياة اليومية بمزيد من الهدوء. بالإضافة إلى الذكر، يؤكد القرآن بشدة على أهمية "الصبر" و"الصلاة". ففي سورة البقرة، الآية 153، جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين). الصبر هنا لا يعني مجرد تحمل المصاعب، بل هو حالة فعالة من الثبات والاستقامة والتسليم للقضاء والقدر الإلهي. في عصر السرعة، حيث يتغير كل شيء بسرعة وتُتوقع النتائج الفورية، فإن ممارسة الصبر تساعدنا على عدم التسرع، وعدم اتخاذ قرارات متسرعة، والتحلي بالصبر في مواجهة الإحباطات أو التأخيرات. الصلاة أيضًا، كما ذكر سابقًا، هي عمود ثابت للحفاظ على السلام والتوازن الداخلي. هذان (الصبر والصلاة) بمثابة جناحين يحميان الإنسان من عواصف الحياة ويمهدان الطريق للوصول إلى سلام دائم. ركن آخر من أركان السلام الإيماني هو "التوكل على الله". في سورة الطلاق، الآية 3، نقرأ: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا). التوكل يعني الثقة الكاملة في التدبير الإلهي وترك التعلق المفرط بالنتائج الدنيوية. هذا لا يعني أن يتوقف الإنسان عن السعي، بل يعني أنه بعد بذل كل الجهود الممكنة، يجب أن يسلم النتيجة لله ويتحرر من القلق بشأن المستقبل. هذا التحرر من أعباء القلق هو بحد ذاته مصدر عظيم للسلام، والذي يعمل كملجأ آمن في عالم اليوم سريع الوتيرة. كذلك، يدعو القرآن إلى "التقوى" و"الإحسان". ففي سورة النحل، الآية 128، جاء: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). التقوى تعني اجتناب الذنوب ومراقبة حدود الله، والإحسان يعني فعل الخير وخدمة الآخرين. إن العيش بتقوى وأداء الأعمال الصالحة لا يؤدي فقط إلى رضا الله، بل يجلب شعورًا عميقًا بالسلام الداخلي والرضا الذاتي. مساعدة الآخرين وخدمة خلق الله تحرر الإنسان من التركيز المفرط على الذات ومشكلاتها، وتمنح رؤية أوسع وأكثر هدوءًا للحياة. في عصر السرعة، حيث غالبًا ما أصبحت العلاقات الإنسانية سطحية، فإن الاهتمام بالإحسان والتواصل العميق مع المجتمع يمكن أن يكون مصدرًا غنيًا للسلام والمعنى. في الختام، لا يتحقق السلام الإيماني في عصر السرعة بتوقف عجلات الحياة، بل بتنظيم السرعة الداخلية وتوجيهها بشكل صحيح. بالالتزام بالذكر والصبر والصلاة والتوكل والتقوى، يمكننا أن نخلق مرساة آمنة لأرواحنا وقلوبنا في خضم عواصف الحياة الحديثة، ونختبر طمأنينة مستقرة وحقيقية لا يستطيع أي سرعة أو ضغط أن يزعجها. هذه الحلول لا تساعدنا فقط في مواجهة تحديات عصر السرعة، بل تمهد الطريق لحياة ذات معنى وغنية بالسلام.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجلان؛ أحدهما تاجرٌ غنيٌ كثير الانشغال، يقضي أيامه من الفجر حتى الغروب في تجارته، دائم السعي والقلق خشية أن يخسر شيئًا أو يفوته ربح. والآخر كان درويشًا زاهدًا لا يطلب من الدنيا إلا ثوبًا يستر به جسده وإناءً لشرب الماء. ذات يوم، رأى التاجر الدرويش جالسًا بجانب نبع ماء، بقلب مطمئن ووجه مشرق، في سلام تام. تنهد التاجر وقال: "أيها الدرويش، أراك متحررًا من كل هموم الدنيا وتعيش في راحة، بينما أنا، مع كل هذه الثروة والممتلكات، لا أجد لحظة راحة." ابتسم الدرويش وقال: "يا صديقي، الفرق بيني وبينك أنك ربطت قلبك بالدنيا بألف حبل، وتزيد من عددها كل يوم، بينما أنا قطعت حبال التعلق من قلبي وسلمت أمري للواحد الأحد. طالما ظل قلبك متعلقًا بمكاسب الدنيا وخسائرها، فلن تجد السلام. السلام الحقيقي يكمن في ترك التعلقات وتسليم الأمور لمن هو الرزاق والمدبر." فكر التاجر في كلام الدرويش وأدرك أن سرعة الدنيا وثروتها لا يمكن أن تجلب السلام، بل السلام يكمن في قلب مطمئن بذكر الله ومتحرر من التعلقات.