العطاء بلا توقع يرتكز على الإخلاص؛ أي فعل الخير لوجه الله وحده. الأجر الحقيقي لهذا العطاء عند الله، مما يجلب الطمأنينة ويحرر النفس من قيود التوقعات الدنيوية.
العطاء والحب دون توقع هو من أسمى المراتب الإنسانية والروحية التي أكد عليها القرآن الكريم بشكل عميق ومثمر. يرتكز هذا المفهوم على مبدأ "الإخلاص"؛ أي أداء كل عمل خالصاً لوجه الله وحده. عندما نعبر عن حبنا وعطائنا بصدق ودون انتظار مكافأة أو شكر من الآخرين، فإننا نسير في حقيقة الأمر على درب العبودية والتقرب إلى الذات الإلهية الأزلية. هذا النوع من المحبة يحرر الإنسان من قيود التوقعات الدنيوية ويجلب له الطمأنينة الحقيقية. يؤكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أن جزاء الأعمال الصالحة محفوظ عند الله ولن يضيع أبدًا. هذا اليقين بالمكافأة الإلهية هو عامل قوي للتحرر من التوقعات البشرية. على سبيل المثال، في سورة الإنسان، الآيات 8 و 9، يقول الله تعالى عن عباده الأبرار: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا". تقدم هذه الآية الكريمة نموذجًا فريدًا من العطاء والمحبة دون توقع. فهؤلاء الأبرار، حتى في أشد حاجتهم، يشاركون ما يملكون مع الآخرين، وهدفهم الوحيد هو رضوان الله، وليس كسب ثناء الناس أو انتظار مكافأة منهم. وهذا درس عظيم لنا جميعًا في كيفية تطهير قلوبنا من شوائب التوقعات وتحويل العطاء إلى عمل إلهي بحت. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن في آيات عديدة على أهمية "وجه الله" (رضوان الله). كلما تم عمل بنية طلب رضوان الله، حتى لو لم يكن له جزاء ظاهر في هذه الدنيا، فإنه سيكون أثمن رصيد للآخرة. في سورة البقرة، الآية 272، نقرأ: "...وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ". توضح هذه الآية بجلاء أن الهدف من الإنفاق والعطاء يجب أن يكون طلب رضوان الله وحده، وأن جزاءه الحقيقي والكامل عنده. هذه النظرة تحرر الإنسان من فخ الإحباط أو الاستياء في حال عدم تلقي رد جميل من الآخرين. كما أن المحبة دون توقع تدل على ثقة عميقة في حكمة الله وعدله. عندما تبذل محبة دون انتظار مقابل، فإنك في الواقع تعترف بحقيقة أن الله هو خير المجازين وأنه لا يضيع أجر المحسنين أبدًا. هذا الإيمان يجفف جذور الغرور والاعتداد بالنفس التي قد تنشأ من التوقعات البشرية. فعندما نتوقع مقابلًا من شخص ولا يقدمه، قد نشعر بالظلم أو التجاهل، وهذه المشاعر السلبية يمكن أن تعيق نمونا الروحي. ولكن عندما نعمل لوجه الله فقط، فإن هذه المشاكل تزول. من الناحية النفسية والروحية، يؤدي التحرر من التوقعات إلى سلام داخلي عميق. فالتوقعات تلقي حملاً ثقيلاً على كاهل الإنسان، وعدم تحققها يؤدي إلى الاستياء، والإحباط، وحتى الضغينة. ولكن عندما يكون حبنا بلا حدود ودون شروط، نتحرر من هذه الأعباء. هذه الحرية لا تفيدنا فقط، بل ترفع من جودة علاقاتنا بالآخرين، لأنها لم تعد قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء، بل على الأصالة والإخلاص. لتنمية هذا النوع من المحبة الداخلية وغير المتوقعة، يجب علينا القيام ببعض الممارسات: أولاً، أن نجعل نيتنا خالصة لله دائمًا. قبل أي عمل صالح، نقول في قلوبنا: "يا رب، أفعل هذا لوجهك الكريم فقط." ثانيًا، أن نحول اهتمامنا عن ردود فعل الآخرين ونركز على نيتنا. ثالثًا، أن نؤمن بأن الله هو المجازي الأساسي وقد أعد أفضل المكافآت لعباده المخلصين. حتى لو لم نر أي علامة على المقابل في الدنيا، فإن الأجر الأخروي أعظم وأبقى. هذا النهج ينقذنا أيضًا من الوقوع في فخ الرياء والتفاخر؛ فالشخص الذي يعمل لوجه الله لا يحتاج إلى تأييد الآخرين. في الختام، إن المحبة دون توقع ليست مجرد عمل أخلاقي، بل هي رحلة روحية تقرب الإنسان إلى ذات الباري تعالى. هذا المسار يجلب طهارة النفس، وطمأنينة القلب، واتصالاً أعمق بالمصدر اللامتناهي للحب والرحمة الإلهية. بهذه النظرة، يتحول كل عمل محبة، من ابتسامة بسيطة إلى بذل المال الوفير، إلى عبادة خالصة تضفي النور والبركة على حياتنا ومن حولنا. هذه هي أعلى درجات السخاء التي يمكن للإنسان أن يبلغها.
يُروى أن رجلاً صالحًا ومحسنًا كان يعيش في زاوية منعزلة من مدينة بعيدة. كانت عادته أن يزور بيوت المحتاجين كل ليلة، دون أن يعلم أحد، فيوصل إليهم قليلًا من الطعام أو الملابس أو أي حاجة أخرى. لم ينتظر أبدًا مديحًا أو شكرًا على فعله؛ فلم يذكر اسمه ولم يترك أي أثر. سأله أصدقاؤه ذات يوم: 'أيها الرجل الصالح، لماذا لا يعلم أحد بهذا القدر من إحسانك ولا يثني عليك؟' ابتسم الرجل الصالح وقال: 'أصدقائي، أنا لا أفعل هذا الإحسان لأعين الناس حتى أحتاج إلى ثنائهم. أنا أفعل هذا فقط لوجه الله؛ لأني أعلم أنه وحده الذي يجازي حقًا، وفي هذا العمل أجد طمأنينة لا يستطيع أي شكر من العباد أن يمنحني إياها.' ومنذ ذلك الحين، أطلق عليه الناس لقب 'المساعد بلا توقع' وتعلموا منه أن المحبة الحقيقية تكمن في إخلاص النية، لا في انتظار المكافأة.