في عالم تنافسي، يتحقق السلام بالتوكل على الله والقناعة والصبر والصلاة وذكر الله الدائم. كما أن الحفاظ على الأخلاق والنظرة الأخروية يساهم في تقليل القلق وتحقيق سكينة دائمة.
في عالم اليوم، أصبحت المنافسة جزءًا لا يتجزأ من حياتنا. فمن بيئات العمل إلى التفاعلات الاجتماعية وحتى المسارات التعليمية، نرى آثار المنافسة في كل مكان. ومع أن هذه المنافسة يمكن أن تكون دافعًا قويًا للتقدم والابتكار والجهد، إلا أنها في كثير من الحالات تتحول إلى مصدر للتوتر والقلق وعدم الراحة. فالإنسان دائمًا ما يشعر بالقلق من التأخر أو الفشل أو فقدان مكانته مقارنة بالآخرين. هذه المخاوف يمكن أن تعرض صحته النفسية والجسدية للخطر وتسلب سكينة حياته. ولكن هل هناك طريقة للعيش بسلام في هذا المضمار التنافسي؟ القرآن الكريم، بحكمته الفريدة، يقدم حلولًا عميقة ومستدامة لتحقيق السكينة في أي ظرف، بما في ذلك في صميم المنافسات الدنيوية. هذه الحلول لا تقوم على الاعتزال عن الدنيا أو الانعزال عنها، بل على نظرة صحيحة وأساسية للحياة ومكانة الإنسان فيها وعلاقته بخالق الكون. أحد المفاهيم القرآنية الأساسية لتحقيق السلام في عالم تنافسي هو "التوكل" على الله. التوكل يعني الثقة الكاملة بالله وتفويض الأمور إليه بعد بذل الجهد والسعي الصادق واستخدام كل القدرات. عندما يعلم الإنسان أن الرزق والنجاح والفشل كلها بيد الله، وأنه هو خير المدبرين، فإن المخاوف الناجمة عن المنافسة تتضاءل بشكل كبير. هذا لا يعني التخلي عن السعي أو التنصل من المسؤولية، بل يعني تفويض نتيجة جهودنا إلى الله والتحرر من الهموم غير الضرورية التي هي خارجة عن سيطرتنا. يقول تعالى في سورة الطلاق، الآية 3: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا"، أي: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه؛ إن الله بالغ أمره؛ قد جعل الله لكل شيء قدرًا". هذه الآية توفر ضمانًا إلهيًا لمن يتوكل عليه، وتغرس سلامًا عميقًا في قلبه، لأنه يعلم أنه بالرغم من سعيه، فإن النتيجة النهائية تُوكَل إلى تدبير حكيم يروم مصلحته في كل الأحوال، وأكثر من ذلك، لا توجد قوة في الوجود تستطيع منع تحقق الإرادة الإلهية. هذا الاطمئنان القلبي، يسهم بشكل كبير في تقليل القلق الناجم عن نتائج المنافسات ويسمح للفرد بالاستمرار في مساره بعقل أكثر هدوءًا. المبدأ الثاني المهم هو "القناعة" والرضا بما قسمه الله. في الثقافة التنافسية الحديثة، هناك دائمًا تشجيع على الرغبة في المزيد، والحصول على الأفضل، والتفوق على الآخرين. هذه الدورة التي لا تشبع ولا تنتهي هي مصدر دائم لعدم الرضا والتوتر، لأنها لا تصل إلى نهاية أبدًا. القرآن الكريم لا يدعو أبدًا إلى التخلي عن السعي لتحسين الحياة وكسب الرزق الحلال، ولكنه يدعو إلى عدم مقارنة الذات بالآخرين باستمرار، وإلى الرضا القلبي بما يملكه الإنسان. القناعة لا تقلل من الجشع والطمع، ومن الميل إلى المنافسة غير الصحية فحسب، بل تفتح بابًا للشكر والتقدير للنعم العديدة التي وهبها الله للإنسان. عندما يكون الإنسان قانعًا بما لديه ولا يحسد الآخرين على ما لديهم، يزداد سلامه الداخلي، ويتحرر من شر الحسد الذي هو أحد أكبر عوامل تدمير السلام والهدوء الداخلي. وقد ورد في الحديث الشريف أن "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" (نهج الفصاحة، حديث 1118). القناعة تساعد الفرد في مسار تقدمه ألا يضع عينه وقلبه على ما يملكه الآخرون، بل يركز على قدراته وفرصه، ويسلك مساره الفريد بسلام. ثالثًا، الحل القرآني لتحقيق السلام هو "الصبر" و"الصلاة". هذان هما ركيزتان متينتان للصمود والثبات والسكينة في مواجهة الصعوبات والإخفاقات والتحديات الحتمية في الحياة، وخاصة في البيئات التنافسية. في مثل هذه البيئات، توجد الكثير من الإخفاقات وخيبات الأمل والانتقادات والضغوط التي يمكن أن تضعف روح الإنسان. يوصي القرآن المؤمنين بالاستعانة بالصبر والصلاة عند مواجهة هذه الصعوبات. تقول الآية 153 من سورة البقرة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"، أي: "يا أيها الذين آمنوا، استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين". الصبر يساعد الإنسان على الثبات في وجه الشدائد، والابتعاد عن العجلة والقرارات العاطفية، والنظر إلى الأمور بمنظور طويل الأمد. الصلاة تربطه بالمصدر اللانهائي للقوة والحكمة والرحمة الإلهية. هذا الاتصال يطمئن القلب ويؤكد للإنسان أنه ليس وحيدًا وأنه يحظى بالدعم والعناية الإلهية. الصلاة، أكثر من مجرد فريضة، هي حوار قلبي وروحي مع الخالق يغذي الروح ويزيل القلق ويخلق شعورًا عميقًا بالأمان في نفس الإنسان. هذان العاملان يمكّنان الفرد من تجربة صعود وهبوط المنافسة بسلام داخلي، دون أن يتعرض سلامه الوجودي للخطر. المبدأ الرابع الرئيسي هو "ذكر الله" أو ذكر الله تعالى. يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، أي: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله؛ ألا بذكر الله تطمئن القلوب". في ضجيج المنافسة، وضغوط العمل، والمقارنات الاجتماعية، وهموم الحياة اليومية، يكون ذكر الله بمثابة مرسى يحمي سفينة وجود الإنسان من الأمواج المتلاطمة ويصل بها إلى شاطئ السلام. يمكن أن يكون ذكر الله من خلال تلاوة القرآن، أو الأذكار، أو التفكر في الآيات الإلهية، أو القيام بالأعمال الصالحة بنية إلهية، وحتى مجرد الوعي القلبي بوجوده في الحياة. هذا التذكير الدائم بأن كل شيء يعود إليه في النهاية، وأنه قادر على كل شيء، يمنح الإنسان منظورًا أوسع من النجاحات الدنيوية الزائلة والمؤقتة، وينقذه من الغرق في المنافسات السطحية التي لا قيمة لها. ذكر الله يضمن أن الإنسان لا ينسى الهدف الحقيقي للحياة ويدرك أن قيمته الحقيقية تكمن في علاقته بالخالق، وليس في مدى نجاحاته الدنيوية. هذا الفهم يشكل أساسًا قويًا للسلام الدائم. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن على أهمية "الأخلاق الحسنة" و"العدل" حتى في سياق المنافسة. المنافسة الصحية هي تلك التي تُراعى فيها المبادئ الأخلاقية والإنصاف والصدق واحترام حقوق الآخرين. فالقرآن ينهى بشدة عن أي شكل من أشكال الغش أو الخداع أو الظلم أو الاعتداء على حقوق الآخرين أو استخدام الوسائل غير المشروعة للفوز. في عالم تنافسي، قد يغري البعض باللجوء إلى أي وسيلة لتحقيق الفوز وتجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية، لكن القرآن يذم هذا المسلك ويعلم الإنسان أن يحافظ على كرامته الإنسانية وقيمه الأخلاقية وحدوده الإلهية حتى في أوج المنافسة. إن الحفاظ على هذه المبادئ الأخلاقية لا يحافظ على الكرامة وراحة الضمير والسعادة الأخروية فحسب، بل يجلب احترام الآخرين ويؤدي إلى نجاح أكثر استدامة وبركة على المدى الطويل. إن الالتزام بهذه المبادئ الأخلاقية هو، في جوهره، جزء لا يتجزأ من عبادة الله ويجلب سلامًا أعمق وأصالة من أي انتصار سطحي وزائل؛ سلامًا مبنيًا على الحق والحقيقة. أخيرًا، إن نظرة القرآن إلى الدنيا كمعبر مؤقت والآخرة والرضا الإلهي كهدف أساسي، تساعد الإنسان على وضع المنافسات الدنيوية في مكانها الصحيح. عندما يعلم الإنسان أن هذه الحياة فانية وأن ما يبقى هو الأعمال الصالحة والرضا الإلهي، فإنه لن يجهد نفسه بشكل مفرط لتحقيق الانتصارات المادية، ولن يطمع، ولن يكتئب أكثر من اللازم بسبب الإخفاقات الدنيوية. هذا المنظور يرسخ السلام والتوازن في الحياة، وينقذ الإنسان من الغرق في السباق اللانهائي للحصول على المزيد والأفضل، وهو سباق لا ينتهي أبدًا وينهك الروح. ينصح القرآن: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ" (النساء: 32)، أي: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض". هذه الآية تشير مباشرة إلى عدم الحسد، وعدم المقارنة، وتشجع على قبول الاختلافات في الرزق والقدرات، وبالتالي تفتح بابًا للسلام الداخلي والرضا بالقدر الإلهي. وهكذا، فإن العيش بسلام في عالم تنافسي لا يتحقق بالهروب منه، بل بالتسلح بسلاح الإيمان، والتوكل، والقناعة، والصبر، والصلاة، وذكر الله، مع نظرة إلهية وأخروية للوجود. هذا السلام هو سلام دائم، وداخلي، وعميق لا يمكن لأي عاصفة تنافسية أو أي تغيير خارجي أن يبدده، وسيكون ملجأً آمنًا لروح وقلب الإنسان في هذا العالم الصاخب.
في قديم الزمان، كان هناك تاجر يُدعى فريدون، يسعى دائمًا إلى الثروة والنجاح. كان معروفًا في السوق بذكائه وجدِّه، ولم يكن يخشى المنافسة قط. لكن كلما زاد ما يحصل عليه، ازداد قلقه من الخسارة، وكلما تفوق على الآخرين، سعى أكثر لمنافسة من كانوا أمامه. ذات ليلة، لم يغمض له جفن من شدة القلق. فقام من فراشه في منتصف الليل وتمشى في حديقته. جذب انتباهه صوت نبع ماء. بجانب النبع، كان يجلس رجل عجوز متواضع وهادئ، يحدق في ضوء القمر. سأله فريدون بدهشة: "يا أيها الرجل الحكيم، أراك في أقصى درجات السكينة، بينما أنا، بكل ثروتي، على وشك أن أفقد عقلي من القلق. ما سرك؟" ابتسم الشيخ وقال: "يا بني، أنت تسعى لشيء لا يمكن أن يتحقق بزيادة التراكم. تظن أن السعادة تكمن في التفوق على الآخرين، بينما السكينة تكمن في قلب التوكل والقناعة. الدنيا سوق مليء بالمنافسة، ولكن الفائز الحقيقي ليس من يحصد أكبر قدر من السلع، بل من يحمل أقل الهموم. كن كطائر يطلب رزقه من الله ولا يخشى المنافسة مع النسر، لأنه يعلم أن رزقه سيأتيه من حيث لا يحتسب." تأمل فريدون هذه الكلمات. ومنذ ذلك الحين، استمر في تجارته، لكنه سلَّم قلبه للتوكل والقناعة بدلًا من تراكم الثروة. وكانت النتيجة أن تجارته بوركت، واستقر سلام في قلبه لم يجربه من قبل قط. لقد أدرك أن البركة والسكينة لا تأتيان مما في أيدينا، بل مما في قلوبنا ومن اتصالنا بالخالق.