للعيش دون الحاجة إلى تأييد الآخرين، يجب التوكل على الله وأداء الأعمال بإخلاص لوجهه تعالى. القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في تقواه، وليس في حكم الناس، وهذا الطريق يتطلب الصبر والثبات.
إن التحرر من الحاجة إلى تأييد الآخرين هو أحد التحديات العميقة والمهمة في حياة الإنسان، والذي يمكن أن يؤثر بشكل كبير على السلام الداخلي ورضا الفرد عن ذاته. القرآن الكريم، بنظرته الإلهية الشاملة، يقدم حلولاً أساسية لتحقيق هذا التحرر الروحي. في الواقع، يكمن طريق الاستقلال الروحي عن آراء الناس وأحكامهم في فهم دقيق لمكانة الإنسان في الوجود وعلاقته بربه. يعلمنا القرآن أن المعيار الأساسي لقيمة الإنسان ليس نظرة الناس وحكمهم، بل علاقته بالله ومستوى تقواه. فعندما يدرك الإنسان أن المحكم الحقيقي لأعماله ونواياه هو الله تعالى وحده، وأن الثواب والعقاب يأتيان منه فقط، يتحرر تدريجياً من قيود الآراء البشرية المتقلبة وغير المستقرة، ويجد قلبه السكينة والاطمئنان في رضا الله وحده. من أبرز التعاليم القرآنية في هذا الصدد هو مبدأ «التوكل على الله». التوكل يعني الثقة الكاملة وتفويض الأمور إلى الله، مع بذل الإنسان قصارى جهده. فعندما يعتمد الإنسان على الله كلياً بدلاً من الاعتماد على تأييد الناس ومدحهم، فإنه لا يعود يهتم بما إذا كانت أفعاله ستُرضي الآخرين أم لا. هذا التوكل يمنح الفرد قوة داخلية تحميه من التذبذب أمام الانتقادات أو الوقوع في فخ المديح الزائف. يقول الله تعالى في سورة الطلاق الآية 3 بوضوح: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»؛ أي: «ومن يتوكل على الله فهو كافيه». هذه الآية تعبر عن حقيقة أنه إذا كان الله كافياً للإنسان، فلا حاجة بعد ذلك للاعتماد على تأييد الخلق أو الخوف من ذمهم. هذا الاعتماد القوي هو الركيزة الأساسية للتحرر من قيود آراء الناس، لأنه عندما يكون سند الإنسان هو الله، فإنه لن يبحث عن سند من الآخرين. مبدأ آخر هو «الإخلاص». يؤكد القرآن مراراً على أداء الأعمال خالصاً لوجه الله. يقول الله تعالى في سورة البينة الآية 5: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»؛ أي: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين». عندما يكون الغرض من كل عمل هو إرضاء الله تعالى بصدق، فإن تأييد الناس أو عدم تأييدهم يفقد أهميته. الرياء والتظاهر هو عكس الإخلاص تماماً، حيث يقوم الفرد بأعماله لكسب تأييد الآخرين وإعجابهم. ينهى القرآن المؤمنين عن الرياء ويدعوهم إلى الإخلاص. فالذي يؤدي أعماله بإخلاص لله يتحرر قلبه من قيود أحكام البشر ويصبح همه الوحيد هو رضا خالقه. كما يؤكد القرآن على أهمية «التقوى» كمعيار حقيقي لقيمة الإنسان. فقد ورد في سورة الحجرات الآية 13: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»؛ أي: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هذه الآية تبين بوضوح أن تفضيل الإنسان وشرفه ليس بالثروة أو القوة أو الجمال أو المكانة الاجتماعية، بل بمستوى تقواه وورعه أمام الله. فعندما يرى الفرد قيمته في قربه من الله وليس في نظرة الناس، فإنه لا يجعل نفسه أسيراً لتوقعات المجتمع ومعاييره المتغيرة. إنه يعلم أن اعتباره الحقيقي هو عند من لا يخطئ حكمه، ولا يحتاج إلى تأييد البشر الخطائين. يعلم القرآن المؤمنين أيضاً أن يتحلوا بـ«الصبر والثبات» حتى في مواجهة سيل الآراء والمعارضة من الآخرين. فقد واجه الأنبياء عليهم السلام دائماً معارضات وأحكاماً خاطئة من أقوامهم، لكنهم بقوا ثابتين على طريق الحق لأنهم كانوا يعلمون أن تأييدهم الوحيد يأتي من الله. هذا الصبر والثبات هو علامة على النضج الروحي وعدم الاعتماد على التأييد الخارجي. آيات القرآن مليئة بالقصص التي تدعو الأنبياء إلى الصبر والتحمل في مواجهة استهزاء الناس وإنكارهم. هذه النماذج تعلمنا أن نقول الحق ونثبت عليه، حتى لو كان العالم كله ضدنا. في نهاية المطاف، إن الحياة دون الحاجة إلى تأييد الآخرين هي حياة قائمة على فهم صحيح للذات والعالم والخالق. وهذا الفهم يجلب الحرية الحقيقية ويجعل الإنسان ثابتاً ومستقراً على طريق رضا الله.
يُروى أنه كان هناك شيخ في زمانه يتمتع بقلب حر وروح مستقلة. كان الناس يتوافدون إليه من كل حدب وصوب، بعضهم يمدح ويثني، وآخرون ينتقدون ويلومون. لكن الشيخ كان له قلب لا يفخر بالمدح ولا يجزع من اللوم. ذات يوم، سأله أحد تلاميذه: «يا أستاذ، كيف لك هذا الهدوء الذي لا يجعلك مدح الخلق مغروراً، ولا يجعلك ذمهم حزيناً؟» ابتسم الشيخ وقال: «يا بني، من ربط قلبه برضا الحق (الله)، لم يعد يخاف من غضب الخلق ولا يرجو رضاهم. لأنه يعلم أن جميع الأحكام عند الله تعالى، وما يبقى هو عمله الخالص ونيته الطاهرة. فماذا يضر قلباً لا ينظر إلا إلى المحبوب، من أحكام الغرباء؟» اطمأن التلميذ بهذه الكلمات وعلم أن الحرية الحقيقية تكمن في تحرير القلب من قيد تأييد الناس ورفضهم.