للحفاظ على الإيمان في عصر التكنولوجيا، يجب التركيز على المبادئ القرآنية للتقوى، ذكر الله، طلب العلم النافع، المحافظة على الوقت، والمسؤولية الاجتماعية. التكنولوجيا أداة يمكن، باستخدامها الصحيح، أن تعزز الإيمان وتُستخدم في سبيل الأهداف الإلهية.
كيف نحافظ على إيماننا في عصر التكنولوجيا؟ هذا السؤال يشغل أذهان الكثير من المؤمنين في عالم اليوم سريع الوتيرة. التكنولوجيا، بكل ما تقدمه من مزايا وفرص، تحمل في طياتها أيضًا تحديات وتهديدات للإيمان والروحانية. فمن الغرق في المعلومات اللامحدودة والمحتوى غير المناسب، إلى إهدار الوقت وفقدان التركيز، وحتى التسبب في العزلة الاجتماعية أو الشبهات العقدية، كل ذلك يمكن أن يؤثر على إيمان الإنسان. لكن القرآن الكريم، بحكمته اللامتناهية، يقدم مبادئ خالدة توجهنا في كل عصر، بما في ذلك عصر التكنولوجيا، للحفاظ على إيماننا وتعزيزه. هذه المبادئ لا تساعدنا فقط على مقاومة أضرار التكنولوجيا، بل تمهد الطريق أيضًا لاستخدامها بشكل إيجابي وبناء. المبدأ الأول والأكثر أهمية هو "التقوى" أو الوعي بالله. التقوى تعني اليقظة الدائمة لحضور الله في جميع لحظات الحياة، وهذا يشمل الأفعال الظاهرة والباطنة، وحتى الأفكار والنوايا القلبية. في البيئة الرقمية، يترجم هذا إلى الحفاظ الشديد على البصر والسمع والقلب. يقول الله تعالى في سورة النور، الآية 30: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ". على الرغم من أن هذه الآية تتناول بشكل أساسي غض البصر عن المحرمات، إلا أنه يمكن تعميمها لتشمل التحكم فيما نراه ونستهلكه في الفضاء الافتراضي. التقوى في عصر التكنولوجيا تعني أن نتذكر قبل كل نقرة، وكل بحث، وكل تفاعل، أن الله مراقب لأفعالنا ويريد منا أن نستخدم الأدوات التي وهبنا إياها بشكل صحيح وفيما يرضيه. هذا اليقظة تساعدنا على تجنب الوقوع في فخ الخطايا السيبرانية، مثل الغيبة والنميمة (نشر معلومات خاطئة أو ضارة)، نشر الأكاذيب (الأخبار الكاذبة والشائعات)، أو مشاهدة المحتوى المحرم والضار الذي يضر بالروح والنفس. هذا النهج الاستباقي للتقوى يوجهنا نحو الاستخدام المسؤول لهذه الأداة القوية ويحمي إيماننا من التآكل التدريجي. المبدأ الثاني هو "ذكر الله" و"الذكر الكثير". التكنولوجيا، بسبب سرعتها وتنوعها وجاذبيتها اللامحدودة، يمكنها بسهولة أن تصرف الإنسان عن ذكر الله وتقوده إلى الغفلة والإهمال. فوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب والأخبار المتواصلة تحول تركيزنا عن الأمور الروحية والأهداف الأساسية للخلق. القرآن الكريم يؤكد في آيات عديدة على أهمية الذكر وذكر الله، ويعتبره مصدر طمأنينة للقلوب. في سورة الرعد، الآية 28، نقرأ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". للحفاظ على الإيمان في عصر التكنولوجيا، يجب إبقاء ذكر الله حيًا في جميع الأوقات، حتى أثناء استخدام الأدوات الرقمية. يمكن أن يشمل هذا: * التخطيط الدقيق لأوقات العبادة: التأكد من أن أوقات الصلوات وتلاوة القرآن وغيرها من العبادات المستحبة لا تتأثر بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا وتبقى الأولوية الأساسية في الحياة. * الاستخدام الذكي للتطبيقات الإسلامية: تثبيت واستخدام التطبيقات الإسلامية بانتظام مثل تطبيقات الأذان، القرآن، الحديث، نهج البلاغة، أو الأدعية اليومية التي تبقي ذكر الله والتعاليم الدينية حية على هواتفنا الذكية وفي حياتنا اليومية. * الحفاظ على اللسان والقلب في الفضاء الافتراضي: تجنب المشاركة في المحادثات العقيمة والعديمة الجدوى، والابتعاد عن الكلام المفرق، والسعي الواعي لنشر كلام الخير والحكمة والمحتوى الذي يساهم في النمو الروحي والأخلاقي للآخرين. هذا يعد ممارسة للذكر اللساني والقلبي في السياق الرقمي. المبدأ الثالث هو "طلب العلم النافع" و"تجنب اللهو واللعب". التكنولوجيا بحر لا نهاية له من المعلومات؛ يوجد فيها العلم النافع والهادي، كما يوجد فيها اللهو واللعب (الملاهي الفارغة والضارة) التي تعيق تقدم الإنسان. القرآن يشجعنا على التفكر والتعقل وطلب العلم، ويفضل العلم على الجهل. في سورة الزمر، الآية 9، يقول الله تعالى: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ". لذلك، يجب أن نستخدم التكنولوجيا كأداة قوية لزيادة المعرفة الدينية، ودراسة القرآن والحديث بعمق، والتعرف على سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، واكتساب المهارات المفيدة والبناءة، وحتى التواصل مع العلماء الدينيين والمراكز الإسلامية الموثوقة. في المقابل، يجب أن نتجنب المحتوى العبثي والمضيع للوقت والضار الذي يبعد الإنسان عن الأهداف الرئيسية للحياة (القرب من الله والسعادة الأخروية). هذا لا يعني الامتناع المطلق عن الترفيه، بل يعني "الاعتدال" و"الموازنة" في استخدامها حتى لا تتجاوز حدودها وتضر بالإيمان والأخلاق والصحة الروحية والجسدية. الهدف هو أن نصبح مستهلكين واعين ومنتقين. المبدأ الرابع هو "الحفاظ على الوقت" و"الاستفادة المثلى من العمر". في القرآن الكريم، تم الإشارة إلى الوقت وأهميته مراراً وتكراراً، بما في ذلك سورة العصر التي تنص صراحة: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" (أقسم بالزمن إن الإنسان لخاسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). التكنولوجيا لديها إمكانات عالية لإضاعة الوقت. فساعات من التصفح العشوائي على وسائل التواصل الاجتماعي، والمشاهدة اللانهائية لمقاطع الفيديو، أو الألعاب عبر الإنترنت يمكن أن تبدد عمر الإنسان الثمين وتمنعه من تحقيق الأهداف الدنيوية والأخروية. للحفاظ على الإيمان وتقويته، يجب وضع خطة دقيقة وذكية لاستخدام التكنولوجيا. تحديد أوقات محددة لاستخدام الأجهزة الرقمية، وتجنب التحقق المستمر من الهاتف المحمول (وهو شكل من أشكال الإدمان)، وتحديد أولويات الأنشطة الحياتية الهامة (مثل الصلاة، قراءة الكتب المفيدة، قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء، العمل، والاهتمام بالأمور الروحية) على الأنشطة الرقمية التافهة، هي من الاستراتيجيات الفعالة. هذه الإدارة للوقت تساعدنا على تخصيص وقت كاف لتربية الروح والتواصل مع الله. المبدأ الخامس هو "المسؤولية الاجتماعية" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الفضاء الافتراضي. القرآن الكريم يحث المسلمين على الدعوة إلى الخير ومنع الشر، ويعتبر هذا إحدى سمات الأمة المثالية. في سورة آل عمران، الآية 104، نقرأ: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". الفضاء الافتراضي يوفر فرصة لا مثيل لها لنشر القيم الإسلامية، وتنوير العقول، والدفاع عن الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة حكيمة ومحترمة. يمكن للمؤمن أن يستخدم التكنولوجيا كأداة للجهاد الثقافي والتنوير من خلال إنتاج محتوى مفيد، والإجابة على الشبهات العقدية، ودعم المظلومين (سواء في البعد المادي أو الافتراضي)، وتعزيز الأخلاق الإسلامية والتعاليم القرآنية. في الوقت نفسه، يجب الامتناع بشدة عن ترويج المحتوى المثير للانقسام، والشائعات التي لا أساس لها من الصحة، وأي شيء يضر بالوحدة والأخوة الإسلامية؛ لأن الله قد نهى عن التفرقة في القرآن. في الختام، من المهم أن نتذكر أن التكنولوجيا في حد ذاتها ليست جيدة ولا سيئة؛ بل هي أداة يحدد استخدامنا لها طبيعتها الخيرة أو الشريرة. الإيمان حالة قلبية وروحية يجب أن تتذكر الله في جميع الظروف ولا تتأثر بأي ظاهرة جديدة (حتى لو كانت جذابة ظاهريًا). بالالتزام بالمبادئ القرآنية للتقوى، والذكر الدائم، وطلب العلم النافع، والمحافظة على الوقت، والمسؤولية الاجتماعية، لا يمكننا فقط الحفاظ على إيماننا في عصر التكنولوجيا، بل يمكننا أيضًا استخدام هذه الأداة القوية لتعزيز الأهداف الإلهية ونشر الخير والعدل في العالم. إن الحفاظ على الإيمان في هذا العصر يتطلب الالتزام والوعي والبصيرة والإرادة القوية، ولكن بالاعتماد على الله واتباع التوجيهات الحكيمة للقرآن، سيكون هذا الطريق واضحًا وممكن التحقيق. يمكن أن تكون التكنولوجيا وسيلة لزيادة الإيمان إذا استخدمت للتفكر في آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، والتواصل البناء مع المجتمع الإيماني، ونشر الرسائل الإلهية والقرآنية. لذلك، بدلاً من الاستسلام للتحديات، يمكننا، بنهج قرآني واستباقي، أن نسخر التكنولوجيا لخدمة الإيمان. هذا المنظور النشط والذكي للتكنولوجيا هو مفتاح نجاحنا في الحفاظ على إيماننا والارتقاء به في هذا العصر السريع. هذا النهج يساعدنا، بدلاً من أن نكون مجرد مستهلكين سلبيين، أن نصبح منتجين للمحتوى القيم ومروجين للنور الإلهي، ننشر نور الإيمان إلى المزيد من القلوب عبر الشاشات، ونستفيد نحن أنفسنا روحياً في هذه العملية.
في أحد الأيام، قال رجل ثري غارق في ممتلكاته الدنيوية بفخر لدرويش: "لقد جمعت الكثير من الثروة والخدم لدرجة أنني لم أعد أشعر بأي قلق!" فأجاب الدرويش بابتسامة: "صدقت، إذا لم يكن لديك هموم، فأنا سعيد لك. ولكن اعلم أن الحرية الحقيقية من القلق لا تأتي من امتلاك الكثير، بل من الاحتياج للقليل. فكلما زادت ممتلكاتك، زاد تعلق قلبك بها، وزاد الخوف من فقدانها. وما الإيمان إلا حرية القلب من كل القيود إلا لربه؟" الرجل الثري، الذي كان عالقًا في شبكة ممتلكاته، لم يجد راحة، بينما الدرويش، باحتياجاته البسيطة، عاش في رضا وقناعة. في عصر التكنولوجيا الصاخب، تذكر أن الكنز الحقيقي ليس في الاتصالات اللانهائية أو المحتوى الرقمي الزائل، بل في القوة الهادئة لقلب متصل بربه، متحرر من هموم الممتلكات الرقمية الزائلة.