يتحقق الحفاظ على القرب الإلهي عبر الذكر الدائم، والصلاة بخشوع، وتدبر القرآن، والدعاء الخالص، والابتعاد عن الذنوب، وخدمة الخلق. إن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وبذكره تطمئن القلوب.
الحفاظ على الشعور بالقرب الإلهي والاستمرارية في هذا المسار هو من أسمى وأعمق أمنيات كل مؤمن، وقد أشار إليه القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا، ومبينًا طرق الوصول إليه. لا يؤكد القرآن على وجود هذا القرب فحسب، بل يقدم إرشادات عملية لتقويته واستدامته. فهم هذا القرب يعود أساسًا إلى إدراك الوجود الدائم لله في حياتنا. فالله تعالى يقول في سورة ق، الآية 16: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"، أي "ونحن أقرب إليه (الإنسان) من حبل الوريد". هذه الآية توضح بجلاء أن القرب الإلهي حقيقة قائمة لا تحتاج إلى إيجاد، بل إلى إدراكها واستشعارها. مفتاح الحفاظ على هذا الشعور يكمن في الاتصال المستمر والواعي بالخالق، وهو ما أوصى به القرآن بطرق متنوعة. إحدى أهم وأساسية طرق الحفاظ على القرب الإلهي هي ذكر الله في كل حال. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة على أهمية الذكر. ففي سورة الرعد، الآية 28 نقرأ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، أي "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب". الذكر ليس مجرد تكرار كلمات معينة، بل هو حضور قلبي ووعي دائم بمراقبة الله لأعمالنا وأفكارنا ونوايانا. هذا الحضور القلبي يدفع الإنسان دائمًا إلى مراقبة سلوكه والابتعاد عن الذنوب. يمكن أن يكون الذكر في تلاوة القرآن، أو الدعاء، أو التسبيحات، أو حتى التفكر في خلق الله ونعمه. كلما كان الذكر أعمق وأكثر انتباهًا، زاد الشعور بالقرب. على سبيل المثال، عند مواجهة تحدٍ، تذكر قوة الله ورحمته اللامتناهية، بدلاً من اليأس، هو نوع من الذكر الذي يجلب السكينة ويقوي الشعور بالقرب. الصلاة، كعمود الدين ومعراج المؤمن، هي وسيلة أساسية أخرى للحفاظ على القرب الإلهي. يقول القرآن: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" (طه، الآية 14)، أي "وأقم الصلاة لذكري". الصلاة فرصة للحوار المباشر وغير المتصل مع الله. توفر هذه الصلوات الخمس خلال اليوم فرصًا ذهبية لتجديد العهد مع الرب وتطهير الروح من الشوائب الدنيوية. في كل ركوع وسجود، يشعر العبد نفسه أقرب إلى الله. جودة الصلاة، أي حضور القلب والانتباه إلى معاني الكلمات، تلعب دورًا كبيرًا في تعميق هذا الشعور. الصلاة التي تؤدى بعجلة وبدون حضور قلب، هي مجرد رفع عهد، أما الصلاة التي تؤدى بخشوع وتضرع، تربط القلب بالله وتقوي الشعور بالقرب. تلاوة القرآن الكريم وتدبره بمثابة رسائل حب من المحبوب إلى عبده. القرآن هو كلام الله، وكلما ازداد انس الإنسان بهذا الكلام وتدبر معانيه، أدرك عمقًا أكبر للحكمة والرحمة الإلهية، وبالتالي زاد شعوره بالقرب من صاحب الكلام. قراءة القرآن بصوت عذب، وفهم ترجمته وتفسيره، والسعي لتطبيق أوامره في الحياة اليومية، كلها تساعد على تعميق هذه العلاقة. هذا العمل يجعل الإنسان يرى الله حاضرًا ومراقبًا في حياته، ويجعل كلماته دليلًا له في مسيرته. الدعاء والمناجاة هما جسر مباشر للتواصل مع الله. يقول الله في سورة البقرة، الآية 186: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، أي "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان". هذه الآية المطمئنة شهادة على أن الله قريب وسميع دائمًا. الدعاء ليس فقط لطلب الحاجات، بل هو فرصة للتعبير عن الحب، والشكر، والتوبة، وحتى التحدث مع الله عن هموم القلب. هذه المحادثات القلبية تقوي شعور الثقة والاعتماد على القوة المطلقة في الإنسان وتزيل الشعور بالوحدة. الابتعاد عن الذنوب والاستغفار المستمر يلعبان أيضًا دورًا حيويًا في الحفاظ على القرب الإلهي. فالذنوب تخلق حجابًا بين العبد وربه، مما يمنع الإدراك الصحيح للوجود الإلهي. كلما ابتعد الإنسان عن الذنوب وطهر نفسه من الشوائب، رفعت هذه الحجب، وأصبح قلبه مستعدًا لاستقبال النور الإلهي. الاستغفار والتوبة هما طريق العودة إلى الله. الاعتراف بالخطايا والندم الحقيقي علامة على التواضع والعبودية، ويجعل الله يفتح رحمته للعبد ويقبله مرة أخرى في حرم قربه. هذا الرجوع المستمر يقوي العلاقة. خدمة الخلق والإحسان من الطرق الأخرى التي تقرب الإنسان من الله. ففي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، يتم التأكيد مرارًا على مساعدة المحتاجين، واحترام الوالدين، وصلة الرحم، واللطف بالحيوانات والبيئة. عندما يقوم الإنسان بعمل الخير بنية خالصة وابتغاء مرضاة الله، فإنه يسير في الطريق الإلهي، ويضيء قلبه بالأنوار الإلهية. هذه الأعمال الخيرية هي انعكاس لصفات الله الرحمانية في وجود الإنسان وتقوي شعور التوافق مع الإرادة الإلهية. الصبر والشكر في مواجهة الشدائد والنعم في الحياة، من الاختبارات المهمة التي تقيس وتقوي قرب الإنسان من الله. يقول القرآن: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة، الآية 153)، أي "إن الله مع الصابرين". الصبر على المشاكل يدل على التوكل والثقة في تدبير الله، والشكر على النعم دليل على المعرفة والامتنان لفضل الله اللامتناهي. وكلتا الصفتين تبقي الإنسان متصلًا بمصدر القوة والرحمة، وتنشئ شعورًا بالدعم والمحبة الإلهية في القلب. باختصار، الحفاظ على الشعور بالقرب الإلهي عملية مستمرة وتتطلب جهدًا واعيًا ودائمًا. يتحقق ذلك بتعميق العلاقة مع الله من خلال ذكره الدائم، وإقامة الصلاة بحضور القلب، وتدبر القرآن، والدعاء الخالص، والابتعاد عن الذنوب والتوبة، وخدمة الخلق. كلما أديت هذه الأعمال بإخلاص واستمرارية أكبر، ارتفعت حجب الغفلة، وأدرك الإنسان حقيقة القرب الإلهي، ووجد السكينة الحقيقية في هذا القرب. هذا المسار هو رحلة جميلة لا نهاية لها، وكل خطوة فيها تقرب القلب من حقيقة الوجود.
ذات يوم، كان رجل صالح وزاهد يمر بطريق، فرأى رجلًا آخر يجلس بجانب بئر، يبكي وقلبه حزين. سأله الرجل الزاهد: "يا أخي، ما الذي أصابك حتى تبكي هكذا؟" فأجاب الرجل الحزين: "أنا نادم على ذنوبي وأخشى الابتعاد عن الله. لا أعرف كيف يمكنني أن أشعر بهذا القرب مرة أخرى." ابتسم الرجل الزاهد بهدوء وقال: "يا صديقي، انظر إلى ماء هذا البئر. كلما كان دلوك أصغر، كلما ملأته بسهولة أكبر واقتربت من الماء. قلب الإنسان كذلك؛ كلما فرغ وتطهر من شوائب الذنوب، وكلما اتجه إلى ربه بذكر ودعاء مخلص، أسرع في الارتواء من نبع معرفته الصافي. القرب الإلهي كنز يوجد في القلوب الطاهرة، لا في المطالب الصاخبة. مع كل توبة صادقة وكل عمل طاعة، ينفتح باب جديد إليه، وتشعر أنه أقرب إليك من أي وقت مضى." اطمأن قلب الرجل الحزين لهذه الكلمات، وقرر أن يسلك طريق العودة إلى القرب الإلهي بالذكر والتوبة.