عند فقدان الرغبة في الدعاء، يوصي القرآن بالصبر والمثابرة، والإكثار من ذكر الله، وطلب العون منه. كما أن التأمل في فوائد الصلاة يمكن أن يعيد الشوق إليها.
في رحلة الحياة الروحية والعبادية، قد يمر كل إنسان بلحظات وفترات تتناقص فيها رغبته وشوقه القلبي لأداء العبادات، خاصة الصلاة والدعاء. هذه الحالة ليست غريبة، بل هي تجربة إنسانية شائعة يمكن أن تنبع من الإرهاق الجسدي والروحي، أو الهموم الدنيوية، أو وساوس الشيطان، أو مجرد تقلبات الإيمان الطبيعية. والقرآن الكريم، بفهمه العميق للطبيعة البشرية وضعفها، يقدم حلولاً حكيمة لإدارة وتجاوز هذه اللحظات، وجميعها متجذرة في تعزيز الصلة بالخالق والثبات على طريق العبودية. أول المبادئ، وربما أكثرها جوهرية، التي يؤكد عليها القرآن الكريم، هو مفهوم "الصبر" و "المداومة". يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 45: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ". هذه الآية توضح صراحة أن الصلاة يمكن أن تكون ثقيلة وصعبة على النفس البشرية، ولكن سبيل تجاوز هذه الصعوبة هو اللجوء إلى الصبر والصلاة نفسها. وهذا يعني أنه حتى عندما لا يشعر قلبنا بالنشاط اللازم للدعاء، لا ينبغي أن نتخلى عن واجبنا الأساسي، وهو إقامة الصلاة. فالمداومة والثبات في أداء الفريضة، حتى في الظروف التي يكون فيها الشوق الداخلي ضعيفًا، يؤدي تدريجياً إلى عودة الخشوع وحضور القلب والشوق الحقيقي. والصبر هنا لا يعني مجرد التحمل والانتظار، بل يعني الاستمرار النشط في أداء العمل، على الرغم من الصعوبات والمقاومات الداخلية. هذا النوع من الصبر يُعتبر جهادًا مع النفس يمنع الإنسان من الاستسلام للكسل والخمول، ويقوي تدريجياً إرادته الروحية. كل خطوة تُتخذ على مضض، لمجرد طاعة الأمر الإلهي، هي درجة نحو منزلة أعلى عند الرب. هذا الثبات يدل على أن العبد وفي بعهده مع الله حتى في أصعب الظروف، وهو مصداق لقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 153: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". الحل الثاني الأساسي والمكمل هو "ذكر الله" أو الإكثار من ذكر الله. في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى ببيان عذب: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". في كثير من الأحيان، يعود عدم الرغبة في الدعاء والصلاة إلى الغفلة، أو القلق الدنيوي، أو الثقل الذي يصيب القلب. فذكر الله، سواء عن طريق تلاوة آيات القرآن، أو تكرار الأذكار اللفظية مثل "سبحان الله"، "الحمد لله"، "لا إله إلا الله"، "أستغفر الله"، أو "الصلاة على النبي وآله"، أو من خلال التفكر والتدبر في عظمة الخلق وآيات الله، يؤدي دور المطهر والمسكن للقلب. هذا الهدوء الداخلي وإزالة غبار الغفلة عن القلب يوفر أفضل بيئة لعودة الحماس والشوق إلى الصلاة والدعاء. ولقد ربط القرآن الكريم بين الذكر والصلاة ربطًا لا ينفصم في سورة طه، الآية 14، حيث قال: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي". هذا يعني أن الصلاة هي جوهر ذكر الله، وإذا ضعف هذا الذكر في الحياة اليومية، فإن الرغبة في الصلاة تتناقص أيضًا. لذلك، فإن الإكثار من الذكر في جميع ساعات اليقظة يغذي قلوبنا روحيًا ويهيئها لصلة أعمق وأكثر حماسًا في الصلاة. هذا التذكر المستمر يزيل الحجب بين العبد والرب، ويمهد الطريق لنور الإيمان، ويشفي القلب الذي أصابه المرض من الغفلة. الحل الثالث هو "الاستعانة بالله نفسه". في كل لحظة نشعر فيها بالضعف ونفتقر إلى الدافع الكافي لأداء العبادات، يجب علينا أن نلجأ بتواضع وخضوع إلى الله سبحانه وتعالى ونطلب منه أن يعيد إلينا النشاط والحماس للعبادة. سورة الفاتحة، الآية 5، توضح طريق هذه الاستعانة: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". فالدعاء من أجل القدرة على الدعاء هو بحد ذاته نوع من العبادة وإظهار الحاجة إلى العتبة الإلهية. والله الرحمن الرحيم، عالم بضعف عباده وعجزهم، وقد وعد بأن يستجيب لمن يطلب منه العون بنية صادقة. يمكن أن تتخذ هذه الاستعانة شكل أدعية خاصة، أو مناجاة قلبية في الخلوة، أو حتى مجرد نية قوية لتغيير الحالة الروحية. وهذا الفعل لا يدل فقط على اعتراف العبد بضعفه، بل يُظهر في الوقت نفسه توكله على قدرة الله اللامتناهية وثقته في فضل الرب ورحمته. فالله قادر على تغيير القلوب وإشعال الشوق للعبادة فيها، وهو الذي يمنح التوفيق لكل خير لعباده. المنهج الرابع هو "التأمل العميق في فلسفة الصلاة وآثارها"، والذي يمكن أن يكون حافزًا قويًا. يقول القرآن في سورة العنكبوت، الآية 45: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ". عندما لا نجد الرغبة في الدعاء، ربما نكون قد غفلنا عن الأهمية الحقيقية للصلاة وفوائدها التي لا تحصى في حياتنا الفردية والاجتماعية. فالصلاة ليست مجرد واجب جاف بلا روح، بل هي درع حصين ضد الذنوب، ومصدر غني للسكينة الداخلية، وأداة قوية للنمو الروحي والارتقاء. إن تذكير أنفسنا كيف تطهر الصلاة الروح، وتجلب النظام والانضباط للحياة، وتبعد الإنسان عن الآثام، وتقوي صلته بمبدأ الوجود، يمكن أن يوفر الدافع اللازم لإقامة الصلاة، حتى في أوقات الفتور والخمول. هذا الفهم الأعمق لمكانة الصلاة ودورها في السعادة الدنيوية والأخروية، يمكن أن يوقظ الشوق الكامن ويدفع القلب نحو المعبود، ويحمي الإنسان من الانحرافات والغفلات. بالإضافة إلى هذه النقاط، يجب الانتباه إلى هذه النقطة الرحمانية والمريحة، وهي أن الله تعالى لا يكلّف عباده أبدًا بما يفوق طاقتهم. ففي سورة البقرة، الآية 286، يقول: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا". هذه الآية تبين أن الله يعلم ضعف الإنسان ونقائصه ولا يطلب منا شيئًا يفوق قدرتنا. لذلك، حتى في اللحظات التي لا نملك فيها الحماس والحضور الكامل للقلب في الصلاة، فإن مجرد أدائها والمثابرة ضد إغراء التخلي عنها مقبول ومُثاب عليه من الله. المهم ألا نستسلم للغفلة وألا نقطع خط الاتصال بالله. حتى الصلاة القصيرة التي تفتقر إلى الحماس الأولي هي أفضل بكثير من تركها بالكامل، لأن هذا الجهد للحفاظ على الصلة يدل على صدق العبد، والله يقدّر هذا الصدق تقديرًا كبيرًا. على الرغم من أن الجودة المثلى هي الهدف دائمًا، إلا أن الاستمرارية ومبدأ الاتصال، حتى في أوج الصعوبات، لهما قيمة كبيرة عند الرب. خلاصة القول، لإدارة الأوقات التي لا نجد فيها الرغبة للدعاء، يعلمنا القرآن الكريم أن: أولاً، نلتزم بـ الصبر والمداومة ولا نترك الصلاة حتى في الصعوبة، لأن هذا الثبات يعيد الخشوع والنشاط تدريجياً ويدل على الوفاء بالعهد الإلهي. ثانياً، نزيد من ذكر الله في جميع لحظات الحياة، لأن الذكر يجلب السكينة للقلوب ويهيئ الأرضية للرغبة في الصلاة ويزيل حجب الغفلة. ثالثاً، نستعين بالله تعالى بتواضع واحتياج ونطلب منه أن يعيد إلينا الحماس والنشاط للدعاء، لأنه قادر على كل شيء، وهو الغفور الرحيم. رابعاً، نتأمل في فلسفة الصلاة وآثارها لتقوية دافعنا من خلال تذكر فوائدها العميقة في الحياة الدنيا والآخرة، وإدراك القيمة الحقيقية لهذه الفريضة. وخامساً، نتذكر دائمًا أن الله لا يكلّفنا فوق طاقتنا، والمهم هو مبدأ الاستمرارية والاجتهاد، حتى لو لم تتحقق الجودة المطلوبة، لأن كل خطوة في سبيله قيّمة، ورحمته تشمل عباده. هذه الحلول لا تساعدنا فقط على تجاوز فترات الفتور، بل تسهم أيضًا في نمونا ونضجنا الروحي. فمقاومة النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان هي جهاد داخلي له أجر وثواب عظيم عند الله. كلما قمنا لأداء الصلاة على الرغم من عدم الرغبة الداخلية وألزمنا أنفسنا بذلك، نخطو خطوة كبيرة على طريق العبودية ونقوي صلتنا بخالق الوجود. هذا الثبات هو علامة على صدق الإيمان والاستسلام لأوامر الله، وهو ما حظي بثناء كبير في القرآن. لذا، كلما حدثت هذه الحالة، اعلم أنها فرصة لإثبات صدق النية وتعميق العلاقة مع الرب. هذا الصراع الداخلي يتحول في حد ذاته إلى نوع من العبادة، وسيكون أجره أعظم بكثير من العبادات التي تؤدى بحماس وشوق كبيرين. وأخيرًا، يجب أن نكون دائمًا متفائلين برحمة الله ومغفرته التي لا حدود لها، وأن نعلم أنه يقدر ويكافئ حتى أصغر جهود عباده ونواياهم الصادقة. وهذا بحد ذاته مصدر عظيم للأمل والدافع لمواصلة الطريق، ويحصّن الإنسان من اليأس ويهديه نحو الفلاح والنجاة.
يروى أنه في زمن ما، كان هناك شيخ مسن وعارف مستنير، وكان له مريد شاب، ولكنه كان أحيانًا يشعر بفتور في الطاعة والعبادة ويجد كسلاً في أداء الصلاة. فجاء ذات يوم إلى الشيخ وقال له بخجل: "يا شيخي، قلبي أحيانًا يفقد رغبته في الدعاء والصلاة، ولا أجد حال العبادة. فماذا أفعل؟" ابتسم الشيخ وقال: "يا ولدي، قصتك كقصة البستاني الذي زرع بذرة شجرة طيبة. كان يسقي تلك البذرة كل يوم ويطرب تربتها، مع أنه لم ير منها ثمرة لسنوات. ولكن بصبر ومداومة، تحولت تلك البذرة إلى شتلة قوية ثم نمت لتصبح شجرة باسقة أثمرت ثمارًا حلوة وألقت ظلالها على المارة. فثمرة تلك الشجرة هي نتيجة لسقاية الأيام التي لم ير فيها ثمارًا." وتابع الشيخ: "الصلاة والدعاء كذلك. قد لا تجد في بعض الأحيان ثمرة اللذة وحضور القلب فورًا، وقد يكون قلبك فاترًا. ولكن اعلم أن كل قطرة من دمعة التوبة، وكل كلمة من الذكر، وكل ركعة من الصلاة تؤديها على الرغم من الفتور، ولمجرد طاعة الأمر الإلهي، هي كالمياه التي تسقي بها جذور الإيمان وشجرة العبودية. هذه المداومة والصبر، وإن بديا صعبين، سيثمران يومًا ما ثمارًا حلوة من السكينة والقرب من الحق والخشوع الحقيقي. فإياك أن تتوقف عن سقاية شتلة العبودية، حتى لو لم تكن ظمآنًا!" ففهم المريد من كلام الشيخ، وعاد إلى عباداته بعزم أقوى، ولم يمض وقت طويل حتى ذاق حلاوة العبودية بكل وجوده.