لنتذكر الله في زحمة الحياة، علينا إعطاء الأولوية للصلاة، تلاوة القرآن، الذكر اللساني، الشكر، التوكل عليه، وتجنب الإفراط في الماديات. هذه الممارسات تحيي القلب وتجلب الطمأنينة.
في عالم اليوم الذي يغص بالضجيج والازدحام، وكثرة المشاغل، والسيل العارم من المعلومات والأنشطة، يعتبر نسيان الله تعالى والابتعاد عن ذكره تحديًا كبيرًا للكثير من الناس. هذا النسيان، الذي يشير إليه القرآن الكريم بـ «الغفلة»، يمكن أن يؤدي إلى فقدان السلام الداخلي، والضياع عن المسار الصحيح في الحياة، وفي النهاية، الحرمان من العناية الإلهية. ولكن كيف يمكننا في خضم هذه الحياة الصاخبة أن نحافظ على صلتنا بخالق الكون ونتذكره دائمًا؟ يقدم القرآن الكريم والسنة النبوية حلولاً عملية وعميقة لهذا الأمر المهم، يمكن لكل فرد الاستفادة منها في جميع الظروف. أحد الحلول الأساسية والشاملة هو مفهوم «الذكر» أو ذكر الله. الذكر لا يقتصر فقط على نطق كلمات معينة؛ بل يشمل أي فعل يجعل الإنسان يتذكر الله ويجعل وجوده ملموسًا في حياته. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 152: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»؛ أي «اذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون». هذه الآية تبين أن ذكر الله متبادل؛ فعندما نذكره، يذكرنا هو أيضًا، وهذا الذكر الإلهي هو مصدر كل خير وبركة. يمكن أن يشمل الذكر أبعادًا مختلفة: 1. الصلاة وإقامتها في وقتها: الصلاة هي عمود الدين ومعراج المؤمن. يقول الله تعالى في سورة طه، الآية 14: «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي»؛ أي «وأقم الصلاة لذكري». الصلاة هي توقف إجباري وهادف في روتين الحياة اليومي. خمس مرات في اليوم والليلة، تتاح للمؤمن فرصة لفك ارتباطه بالعالم المادي والتوجه بكل كيانه نحو خالقه. هذه اللحظات هي فرصة لتجديد العهد، وطلب العون، والشكر. إن الانتظام في الصلوات يوفر برنامجًا منظمًا لذكر الله في زحمة الحياة ويمنع الانغماس الكامل في الماديات. 2. تلاوة القرآن الكريم وتدبره: القرآن هو كلام الله ومليء بالهداية والتذكير. إن تلاوة القرآن يوميًا، ولو بكميات قليلة، وتدبر معانيه، يحافظ على يقظة القلب ويجعل الإنسان مدركًا لحقائق الوجود ومكانته في عالم الخلق. القرآن بحد ذاته «ذكر»، والأنس به طريق مؤكد لعدم نسيان الله. آيات القرآن هي مرآة يمكن من خلالها رؤية عظمة الله وقوته وحكمته، وهذه الرؤية بحد ذاتها هي شكل عميق من أشكال الذكر. 3. الذكر اللساني والقلبي: قول الأذكار والأدعية المختلفة مثل «سبحان الله»، «الحمد لله»، «لا إله إلا الله»، «الله أكبر»، «لا حول ولا قوة إلا بالله» طوال اليوم، حتى أثناء القيام بالأعمال اليومية، يحافظ على انشغال القلب واللسان بذكر الله. الذكر القلبي يعني الحضور الدائم لله في الذهن والقلب؛ أي أن يأخذ الإنسان في كل عمل رضى الله بعين الاعتبار ويطلب منه العون. يتطلب هذا الأمر تدريبًا ومثابرة، ويتحول تدريجيًا إلى عادة إيجابية. 4. الشكر الدائم: يؤكد الله تعالى في العديد من آيات القرآن على أهمية الشكر. الشكر ليس فقط علامة على الإيمان، بل يؤدي أيضًا إلى زيادة النعم. عندما يتذكر الإنسان النعم الإلهية في جميع الظروف، حتى في الصعوبات، ويشكر عليها، فإنه يتوجه تلقائيًا إلى مصدر هذه النعم، وهو الله، ويبتعد عن الغفلة. هذا التركيز على الجوانب الإيجابية للحياة وربطها بالله، يشكل درعًا قويًا ضد إغراءات النسيان. 5. التوكل والاعتماد على الله: في مواجهة ضغوط الحياة والتحديات اليومية، يمنح التوكل على الله الإنسان الطمأنينة والقوة. عندما نعلم أن كل الأمور بيديه وأنه خير المدبرين، تقل القلق، ويطمئن القلب بذكراه. هذا التوكل لا يعني التخلي عن الجهد والسعي، بل يعني تسليم نتيجة العمل إليه بعد بذل كل الجهود. هذا التوجه يجعل القلب الخالي من القلق أكثر استعدادًا لذكر الله. 6. تجنب الانغماس في الدنيا والماديات: يحذر القرآن الكريم صراحة من أن الأموال والأولاد يمكن أن تكون سببًا للغفلة عن ذكر الله. في سورة المنافقون، الآية 9 نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»؛ أي «يا أيها الذين آمنوا لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون». هذا لا يعني ذم المال والأولاد، بل يعني التحذير من التعلق المفرط بهما، مما يؤدي إلى نسيان الهدف الأساسي للحياة وهو القرب من الله. التوازن بين الحياة المادية والروحية هو المفتاح. 7. التفكر والتدبر في الخلق: نظرة عميقة وتأملية في الظواهر المحيطة بنا، من أصغر الجزيئات إلى أعظم المجرات، تقود الإنسان إلى عظمة وقوة خالق الكون. هذا التفكر بحد ذاته نوع من الذكر الذي يوقظ القلب ويعزز شعور العبودية والصغر أمام عظمة الله. الطبيعة هي كتاب مفتوح لتذكيرنا بوجود الله، وهو دائمًا في متناول أيدينا. في الختام، إن ذكر الله في زحمة الحياة هو خيار واع وجهد مستمر. من خلال التخطيط للحظات ذكر الله، وتنمية العادات الروحية، وتجنب الانغماس الكلي في الشؤون الدنيوية، يمكننا أن نحافظ على قلوبنا حية ونسير دائمًا في طريق الهداية الإلهية. هذا لا يساعد فقط على سلامنا الدنيوي، بل يجلب أيضًا السعادة في الآخرة.
يُروى أن رجلاً ورعًا ودرويشًا قانعًا كان يعيش في زاوية هادئة من أحد الأحياء. وكان رجل ثري يسكن بجواره، يسعى tirelessly لجمع الثروة من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، ولا يتوقف أبدًا عن سعيه. ذات يوم، رآه الدرويش وهو يسرع بخطواته بوجه عبوس وقلق. ابتسم الدرويش وقال: «يا صديقي، ما هذا السعي كله؟ يبدو أنك تريد أكثر من كنز قارون!» تنهد الرجل الغني وقال: «يا درويش، إذا توقفت عن السعي للحظة، فسأتخلف عن الركب وستقل أموالي. وأنا غافل عن أن الدنيا فانية، وفي هذه الزحمة، يبتعد قلبي عن ذكر الله.» فنصح الدرويش: «في هذا البستان المليء بزهور الدنيا، إذا أغمضت عين قلبك على الماء الجاري للحقيقة، فلن تؤذيك أشواك القلق بعد الآن، وسيبقى قلبك دائمًا يذكر البستاني الحقيقي. إن السكينة التي توجد في القناعة لا توجد في أي ثروة، لأن القناعة تحررك من قيود الدنيا، فيفكر قلبك بحرية في ربك.» ومنذ ذلك الحين، سعى الرجل الثري أيضًا، إلى جانب جهوده الدنيوية، لتخصيص لحظات لذكر الله، ووجد السلام الحقيقي في هذا التوازن.