في لحظات العجز، يمكن للمرء أن يجد السكينة والقوة الإلهية بالتوكل المطلق على الله، والدعاء الصادق، والصبر والصلاة، ودوام ذكر الله. هذه الممارسات لا تخفف الأعباء النفسية فحسب، بل تجلب فرجًا غير متوقع من الله، وتملأ القلب بالأمل والطمأنينة.
في لحظات العجز التام، عندما يضيق العالم على اتساعه ويجد الإنسان نفسه بلا مأوى، وتصبح اليأس والقلق رفيقيه الوحيدين، يتوق القلب البشري غريزيًا إلى سند ثابت وأبدي. القرآن الكريم، هذا الكتاب الهادي والنور، يرسم لنا طريقًا واضحًا للجوء إلى الذات الإلهية المقدسة في مثل هذه الظروف. إن اللجوء إلى الله في وقت العجز ليس مجرد خيار، بل هو السبيل الحقيقي الوحيد لإيجاد السكينة والقوة في مواجهة عواصف الحياة. هذه العملية متعددة الأوجه وتتطلب فهمًا عميقًا لعلاقتنا بالخالق الأحد. أحد الأركان الأساسية للجوء إلى الله هو «التوكل». التوكل يعني الثقة المطلقة بالله تعالى في جميع الأمور، بعد بذل كل جهد وأخذ بالأسباب الممكنة. يؤكد القرآن على هذا المبدأ في آيات عديدة. فمثلاً، في سورة الطلاق، الآية 3، يقول تعالى: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). هذه الآية تمنحنا الاطمئنان بأنه متى توكلنا على الله بصدق وإخلاص، فإنه سيكون كافينا ونصيرنا. التوكل الحقيقي ليس الجلوس مكتوفي الأيدي، بل هو السعي الجاد في طريق الحق ثم تفويض النتائج للتدبير الإلهي. عندما يقطع الإنسان في أوج ضعفه ويأسه كل أمل من المخلوقين ويتصل بالخالق، فإنه في تلك اللحظة قد وجد أقوى نقطة اتصال مع ربه. في هذه الحالة، لا يقتصر الأمر على رفع العبء النفسي عن كاهل الإنسان، بل يفتح الله أمورًا من حيث لا يحتسب. هذا التوكل هو الذي يمنح الإنسان قوة تفوق القوى المادية ويجعله صامدًا أمام الحوادث والمصائب. تاريخ الأنبياء والأولياء مليء بالأمثلة التي في أوج العجز الظاهري، وبفضل التوكل المطلق على الله، نجا أصحابها من المهالك؛ من نجاة إبراهيم من نار النمرود إلى نجاة يونس من بطن الحوت، كلها تشهد على قوة التوكل. هذا الاعتماد العميق يغرس في الروح سلامًا داخليًا لا يتزعزع، مع العلم بأن أقوى كيان في الوجود هو حاميك ورزقك. والسبيل الثاني والحيوي للغاية للجوء إلى الله هو «الدعاء» والمناجاة. الدعاء هو جوهر العبودية والحوار المباشر مع الرب. في لحظات العجز، يشعر الإنسان بالحاجة إلى أن يُسمع ويُعان أكثر من أي وقت مضى. لقد وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بإجابة دعاء عباده. في سورة غافر، الآية 60، يقول: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). وفي سورة البقرة، الآية 186، يؤكد: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان). الدعاء ليس مجرد طلب للحاجات، بل هو تعبير عن الضعف والاحتياج إلى مصدر لا متناهي من القوة والرحمة. عندما يرفع الإنسان يديه بالدعاء في قمة الخضوع، يشعر بأنه ليس وحده وأن هناك قوة أعظم من كل القوى تسنده. هذا الاتصال الحميم يجلب سكينة لا مثيل لها للقلب ويبقي الأمل حيًا. أحيانًا لا تكون الإجابة على الدعاء بالشكل الذي نتوقعه، ولكنها دائمًا تحمل الخير والصلاح لنا، سواء كانت إجابة فورية، أو ادخارًا للآخرة، أو دفعًا لبلاء. إن مجرد التعبير عن مخاوفنا وآمالنا لله يجلب شعورًا بالتحرر والراحة، ويذكرنا بأن هناك دائمًا من يسمع، من هو قادر على حل أعظم مشاكلنا. «الصبر» و«الصلاة» هما أيضًا أداتان قويتان أخريان للجوء إلى الله. في سورة البقرة، الآية 153، نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين). الصبر يعني الثبات أمام المشاكل، والتحكم بالنفس في الشدائد، والمثابرة في العبادة. عندما نجد أنفسنا في حالة عجز، يساعدنا الصبر على مواجهة الموقف بهدوء أكبر وتجنب التسرع واتخاذ القرارات الخاطئة. أما الصلاة، فهي عماد الدين ومعراج المؤمن. في لحظات الصلاة، يتجرد الإنسان من التعلقات الدنيوية، ويوجه كيانه كله نحو الله. هذه اللحظات هي ذروة الاتصال الروحي حيث يمكن للمرء أن يسلم كل همومه لله ويرتوي من فيض رحمته. الصلاة لا تهدئ الجسد والروح فحسب، بل هي مصدر للطاقة الروحية التي تمنح الإنسان القدرة على مواصلة طريقه. تجديد الوضوء، وإقامة الصلوات اليومية، وخاصة صلوات النوافل وقيام الليل، كل منها يمثل نافذة على السكينة الإلهية. في السجود تحديدًا، يشعر المرء بأقرب ما يكون إلى الله، يكشف عن نقاط ضعفه ويجد القوة في الخضوع المطلق. «الذكر» والتذكر الدائم لله يلعبان أيضًا دورًا محوريًا في التخلص من العجز وإيجاد الطمأنينة. يقول القرآن الكريم: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). (سورة الرعد، الآية 28). في أوقات القلق واليأس، يمكن لتكرار الأذكار الإلهية مثل «لا حول ولا قوة إلا بالله»، «حسبنا الله ونعم الوكيل»، أو مجرد ذكر «يا الله»، «يا رحمن»، «يا رحيم» أن يهدئ القلب المضطرب ويعزز الشعور بالحضور والدعم الإلهي. الذكر هو ممارسة مستمرة للحفاظ على اتصال واعٍ بالله، حتى في خضم مشاغل الحياة اليومية. هذا التذكير الدائم بأن الله حاضر وناظر وقادر على كل شيء، يطمئن الإنسان بأنه ليس وحده تحت أي ظرف. إنه يحول تركيز المرء من الطبيعة الطاغية للمشاكل الدنيوية إلى القوة والحكمة اللامتناهية للخالق. لتحقيق لجوء فعال إلى الله في وقت العجز، هناك عدة خطوات عملية ضرورية أيضًا: 1. العودة إلى القرآن: قراءة آيات القرآن وتدبرها، خاصة تلك التي تتحدث عن التوكل والصبر والدعاء والرحمة الإلهية، يهدئ القلب ويرشد إلى الطريق الصحيح. 2. الاستغفار والتوبة: الاعتراف بالخطايا وطلب المغفرة من الله يزيل الحجب بين العبد والخالق ويفتح طريق الرحمة الإلهية. إن الشعور بالذنب نفسه يمكن أن يكون مصدرًا للعجز الذي يزول بالتوبة. 3. فعل الخيرات والصدقة: مساعدة الآخرين وتقديم الصدقات لا يجلب الأجر فحسب، بل يفرج الكروب ويدفع البلاء. عندما نساعد الآخرين، يساعدنا الله أيضًا. 4. حُسن الظن بالله: الإيمان بأن الله لا يريد لعبده إلا الخير، حتى لو كان ظاهر الأمر غير سار. هذا الظن الحسن هو مفتاح الطمأنينة والرضا. في الختام، إن اللجوء إلى الله في أوقات العجز هو تجربة شخصية وروحية عميقة تشمل مجموعة من الأعمال القلبية والجوارحية. إنه يعني التسليم الكامل لإرادة الله، مع بذل الجهد والمجاهدة في طريق الحق. عندما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من التوكل والتسليم، فإنه لا ينجو من العجز فحسب، بل يتصل بمصدر لا ينضب من الطمأنينة والقوة والأمل لا يمكن لأي عاصفة أن تزعزعه. هنا، يتحول شعور العجز بحد ذاته إلى بوابة للدخول إلى حرم الله الآمن، حيث الملجأ الحقيقي الوحيد للإنسان. كلما تعمقت العلاقة بالله، زاد الشعور بالأمان والسكينة الداخلية.
يُحكى أن تاجراً ثرياً فقد كل ثروته في غرق سفينة، وأصبح يائساً وعاجزاً تماماً. كان يجلس على الشاطئ، غارقاً في اليأس، عندما مرّ به درويش حكيم. سأله الدرويش بابتسامة رقيقة: «ما الذي يحزنك يا بني؟» قصّ التاجر بحسرة مصيبته، شاكياً من عجزه. أجاب الدرويش بهدوء: «يا صديقي، عندما تسلبك أمواج البحر شيئاً، فحوّل بصرك إلى اتساع السماء. فالذي يتحكم في البحر، يتحكم أيضاً في قلبك. ضع ثقتك فيه، فهو الملجأ الأخير. ربما هذا الخسارة تطهير، وسينفتح لك باب جديد من حيث لا تحتسب.» تأثر التاجر بهذه الكلمات، رفع رأسه، ودعا، وشعر بقوة هادئة تعود إلى قلبه. بعد فترة وجيزة، ظهرت له فرصة خفية، ووجد السلام، وأدرك أن الثروة الحقيقية لا تكمن في الممتلكات، بل في الاتكال على الخالق.