الشكر الحقيقي على النعم يشمل الإقرار القلبي بمصدر النعم الإلهي، والتعبير اللساني بالحمد والذكر، والأهم من ذلك، الاستخدام الصحيح والعملي للنعم في سبيل مرضاة الله وخدمة خلقه.
الشكر الحقيقي على النعم في الإسلام لا يقتصر فقط على قول «الحمد لله» أو مجرد التعبير اللفظي عن الشكر، بل يتجاوز ذلك إلى أبعاد أوسع وأعمق تشمل القلب واللسان والجوارح. في الحقيقة، الشكر الحقيقي هو حالة شاملة ومستمرة تربط الإنسان بخالق النعم في كل لحظة من لحظات حياته. يدعو القرآن الكريم الإنسان باستمرار إلى التفكر في نعم الله التي لا تحصى وأداء حق شكرها، ويعتبر ذلك من علامات الإيمان والعبودية الصادقة. إن إدراك أن الوجود بأكمله، من أصغر الجزيئات إلى أكبر المجرات، كله نعم من الله تعالى، هو الخطوة الأولى في سبيل الشكر الحقيقي. 1. الركن الأول للشكر الحقيقي هو الإقرار القلبي والاعتراف بمصدر النعمة. هذا يعني أن نؤمن بكل كياننا أن كل ما نملك، من صحة وعافية إلى الأسرة والأصدقاء والرزق والذكاء والمواهب والأمن والسلام وحتى القدرة على التنفس، كلها هبات لا تقدر بثمن من الله عز وجل. يمنع هذا الإقرار الإنسان من الغرور والعجب بالنفس، ويدفعه إلى التواضع أمام العظمة الإلهية. يقول الله تعالى في سورة النحل، الآية 53: «وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ». هذه الآية الأساسية تذكّرنا بأنه لا توجد نعمة إلا وكان مصدرها الله. إن التفكر في هذه الحقيقة يوقظ القلب من الغفلة ويوجهه نحو الثناء والحمد للرب. على سبيل المثال، عندما نستيقظ في الصباح ولدينا القدرة على الرؤية والسمع والمشي والتفكير، يجب أن نتوقف لحظة ونتأمل أن هذه القدرات هي هبة من الله قد تسلب في أي لحظة. هذا الإقرار القلبي هو أساس كل شكر لاحق. 2. البعد الثاني للشكر الحقيقي هو التعبير اللساني. بعد الإقرار القلبي، يأتي دور التعبير عن هذا الشكر باللسان. إن قول «الحمد لله» (الحمد كله لله) في كل حال من الأحوال هو أحد أفضل وأشمل أشكال الشكر اللساني. هذه العبارة ليست فقط اعترافًا بالنعمة، بل هي اعتراف بربوبية الله المطلقة وملكيته للكون وكل ما فيه. في الواقع، كلمة «الحمد لله» بذاتها تعني الشكر التام والكامل. بالإضافة إلى ذلك، ذكر الله وتسبيحه، وقراءة أدعية الشكر، والتحدث عن النعم الإلهية للآخرين (للتشجيع على الشكر وتذكيرهم بالقدرة الإلهية) تعتبر أيضًا من صور الشكر اللساني. لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول «الحمد لله» دائمًا في مختلف الأحوال، من الفرح إلى الشدة، وهذا يدل على أن الشكر لا ينبغي أن يقتصر على أوقات الراحة، بل في الصبر على البلاء والمصاعب أيضًا، فإن الشكر يجزى عليه، لأن وراء كل شدة حكمة وخير لا يعلمهما إلا الله. 3. أما أهم وأكمل صور الشكر الحقيقي فهو الشكر العملي. هذا الجانب من الشكر هو جوهر موضوعنا، ويعني الاستخدام الصحيح والمناسب للنعم في المسار الذي حدده الله لها. بعبارة أخرى، كل نعمة أنعم الله بها علينا، جاءت لهدف معين وتصحبها مسؤولية. الشكر العملي يعني توظيف النعم في طاعة الله وخدمة خلقه. على سبيل المثال: إذا أنعم الله عليك بـ«الصحة»، فإن الشكر الحقيقي يكمن في استخدام هذه الصحة في عبادته، ومساعدة المحتاجين، والعمل الحلال، واكتساب العلم والمعرفة، وليس في المعصية أو إيذاء النفس والآخرين. إذا كنت تملك «المال»، فإن شكره يكون بإنفاقه في سبيل الخير، ومساعدة الأيتام والفقراء، والإنفاق في سبيل الله، وتجنب الإسراف والتبذير. يقول الله تعالى في سورة سبأ، الآية 13: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (اعملوا آل داود شكراً؛ وقليل من عبادي الشكور). هذه الآية تبين بوضوح أن الشكر الحقيقي عملي، وأن عدد الذين يصلون إلى هذه المرحلة قليل. وهذا يعني أن الكثيرين يكتفون بالشكر اللساني لكنهم لا يستغلون النعم على الوجه الذي ينبغي. إذا وهبك الله «العلم والمعرفة»، فإن شكره يكمن في تعليم الآخرين، ونشر الحقائق، وهداية الضالين، واستخدامه لخير البشرية، لا للغش والاستغلال. إذا كنت تملك «السلطة والمكانة الاجتماعية»، فإن شكرها يكون بإقامة العدل، ودعم المظلومين، وإصلاح المجتمع. حتى نعمة «الوقت» تتطلب شكراً عملياً؛ فشكرها يكمن في الاستفادة المثلى من لحظات العمر في سبيل رضوان الله، واكتساب الكمالات، وأداء الأعمال النافعة، لا في إضاعتها في البطالة والعبث. هذا المستوى من الشكر يدل على عمق إيمان الإنسان وفهمه لمسؤوليته تجاه النعم الإلهية. الشكر العملي هو نوع من الاستثمار للمستقبل؛ فبكل عمل فيه شكر، نزرع بذور الخير والبركة في حياتنا وحياة الآخرين. وفوائد الشكر الحقيقي لا تحصى. من أهمها الوعد الإلهي بزيادة النعم. في سورة إبراهيم، الآية 7، نقرأ: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). هذه الآية تقر قاعدة إلهية: الشكر يؤدي إلى الزيادة، والكفر (الجحود) يؤدي إلى النقصان وفقدان النعم. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الشكر الحقيقي إلى سلامة القلب، والرضا الداخلي، وتقوية علاقة الإنسان بالله. الإنسان الشاكر يتسم دائمًا بالإيجابية وسيكون أكثر صبراً في مواجهة التحديات؛ لأنه يعلم أن كل ما يأتي من الله خير وحكمة. هذه الحالة الروحية تبعد الإنسان عن الحسرة ونقص الصبر والجحود، وتمنحه الأمل والبهجة. في الختام، الشكر الحقيقي على النعم هو مسار دائم وأسلوب حياة. هذا يعني أن المؤمن، في كل لحظة وفي كل حال، يدرك النعم الإلهية، ويذكرها بلسانه، ويوظفها عملياً في سبيل رضوان ربه. هذه الأبعاد الثلاثة (القلبي، اللساني، العملي) لا تنفصل، وكل منها يكمل الآخر. كلما تقدمنا في هذا المسار، لن نختبر المزيد من النعم فحسب، بل سنقترب أكثر من رضا الله وقربه، لنعيش حياة أكثر ثراءً في الدنيا والآخرة.
يروى أنه في الأزمنة الغابرة، عاش رجل ورع وقنوع بجوار بئر صغيرة ذات ماء قليل. وذات يوم، مر به درويش عطشان وطلب منه شربة ماء. فأعطى الرجل الورع الدرويش الماء الذي كان لديه بوجه بشوش وقلب طيب. وبعد أن شرب الدرويش، دعا له وقال: «بئرك ستصبح نبعاً للبركة، إذا عرفت حق هذه النعمة.» فأخذ الرجل الورع كلام الدرويش على محمل الجد. ولم يستخدم ماء بئره لجمع الثروة، بل ليروي عطش المارة ويسقي الأشجار الصغيرة في الصحراء القاحلة. ومع كل دلو ماء كان يستخرجه من البئر، كان يقول «الحمد لله» ويستخدم هذه الهبة الإلهية بأفضل وجه ممكن. لم يمر وقت طويل حتى فاضت بئره، وتدفقت منها مياه وفيرة وعذبة. جاء الناس من كل حدب وصوب إلى بئره ليشربوا ويسقوا، وتحولت تلك البئر إلى نبع غزير ومركز للازدهار. لم ينس الرجل الورع أبداً من أين أتت هذه البركة، وظل يشارك ماءه بسخاء مع الآخرين، وباركت أعماله الصالحة وزادت نعمته، وخلد اسمه الطيب. لأنه أدى الشكر ليس باللسان فحسب، بل بأفعاله أيضاً، وجلب الخير والفرج لخلق الله.