الاستفسار الصادق وطلب العلم في الدين ليس علامة على ضعف الإيمان، بل هو سبيل لتعميق الفهم وتقوية اليقين، فالقرآن يشجع على التفكر والسؤال من أهل العلم. هذا النوع من التساؤلات يحوّل الإيمان من التقليد إلى التحقيق.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، لا يُذم السعي وراء المعرفة والحقيقة، بل يُشجّع ويُحث عليه بقوة. على عكس التصور الشائع لدى بعض الأفراد بأن طرح الأسئلة في الأمور الدينية يدل على ضعف أو عدم اليقين في الإيمان، فإن القرآن الكريم يدعو الإنسان في آيات متعددة وبأساليب متنوعة إلى التفكر والتدبر والتعقل والسؤال. هذا المنهج القرآني لا يؤيد الإيمان الذي يقوم على التقليد الأعمى دون تأمل؛ بل يمدح الإيمان القوي والثابت الذي يصل إلى اليقين والبصيرة بعد طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة. في الواقع، إن طرح الأسئلة البناءة والصادقة وبنية خالصة ليس علامة على ضعف الإيمان، بل يمكن أن يمهد الطريق لنمو الفرد الفكري والإيماني ويوجهه إلى درجات أعلى من المعرفة الإلهية. يدعو القرآن مرارًا الإنسان إلى التدبر في الآيات الآفاقية (علامات الله في الكون) والآيات الأنفسية (علامات الله في وجود الإنسان نفسه). هذا التدبر والتفكر يثير بطبيعة الحال أسئلة في الذهن، والإجابة عليها تؤدي إلى تقوية الإيمان وفهم أعمق للخالق والخليقة. يقول الله تعالى في القرآن: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الزمر، الآية 9)؛ هذه الآية تبين بوضوح فضل العلم والمعرفة على الجهل، وتؤكد ضمنًا على السعي وراء العلم من خلال طرح الأسئلة. من أبرز الأمثلة في القرآن التي تدل على جواز السؤال وحتى ضرورته، قصة النبي إبراهيم (عليه السلام) الذي طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى. في سورة البقرة، الآية 260، نقرأ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾؛ هذه الآية تُظهر بوضوح أن سؤال النبي إبراهيم (عليه السلام) لم يكن عن شك أو تردد في القدرة الإلهية، بل كان للوصول إلى 'اطمئنان القلب' و'اليقين' الأكبر. والله لم يوبخه، بل استجاب لطلبه بإجابة عملية ليرتقي إيمانه من مرحلة 'الإيمان التقليدي' إلى 'الإيمان التحقيقي' والمشاهدة. هذا المثال حجة قوية على مشروعية وفائدة الأسئلة العميقة والصادقة في الدين. بالإضافة إلى ذلك، يأمر القرآن الكريم في آيات أخرى بالسؤال من أهل العلم والذكر. يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة النحل، الآية 43 وسورة الأنبياء، الآية 7)؛ هذا الأمر القرآني الصريح يقوم أساسًا على أن الجهل مذموم، وطريق رفعه هو السؤال من المتخصصين وأهل الخبرة. وبالتالي، فإن أي سؤال يُطرح بنية الوصول إلى فهم أعمق، أو إزالة شبهة، أو اكتساب معرفة أكبر، ليس فقط لا يدل على ضعف الإيمان، بل هو بالضبط ما يطلبه القرآن من المؤمنين. فالقرآن نفسه دعوة شاملة إلى التفكر والعقلانية، وقد أنزل آيات كثيرة لتحفيز حس الفضول والتأمل في الإنسان. طبعاً، من الضروري التمييز بين أنواع طرح الأسئلة. فالأسئلة البناءة والهادفة إلى البحث عن الحقيقة تختلف عن الأسئلة التخريبية أو الساخرة. فالقرآن الكريم يذم الأسئلة التي تُطرح بهدف السخرية أو العناد أو إثارة الشبهات الباطلة أو العصيان لأوامر الله. يمكن رؤية أمثلة على هذا النوع من الأسئلة في سلوك بني إسرائيل مع النبي موسى (عليه السلام)، حيث كانوا يطرحون أسئلة لا داعي لها وعنيدة بقصد التذرع والتهرب من أداء الأوامر الإلهية. كذلك، نُهي عن السؤال حول الأمور الغيبية التي تخرج عن نطاق إدراك البشر أو التي لا يكون من الصالح للإنسان أن يخوض فيها (مثل الوقت المحدد ليوم القيامة). ولكن الأسئلة التي تتم بنية خالصة للفهم والإدراك الأعمق وتقوية اليقين، فقد كانت دائمًا محل تأييد وتشجيع الإسلام. هذه الأسئلة لا تضعف الإيمان، بل تحوله من التقليد إلى التحقيق، ومن الظن إلى اليقين. هذا المسار هو الذي يهدي الإنسان إلى معرفة أعمق بالله وعمل صالح أقوى، ويجعل أسس إيمانه أكثر رسوخًا في مواجهة الوساوس والشبهات. في الختام، إن الإيمان الذي يتشكل بالوعي والتفكر والإجابة على الأسئلة هو أكثر استقرارًا وقيمة بكثير من الإيمان الذي يقوم فقط على التقليد دون أي تحد فكري.
يُروى أنه في العصور القديمة، كان هناك تاجر حكيم يميل قلبه إلى المعرفة واليقين. كان له ابن شاب شديد الفضول، ودائم السؤال عن أمور الدين والحكمة. أحيانًا كان الأب يعتقد أن كثرة هذه الأسئلة ربما تنبع من قلق في القلب. ذات يوم، سأل الابن بأدب: «أبي العزيز، هل كثرة السؤال عن الدين تبعد الإنسان عن طمأنينة الإيمان؟» أجاب الأب، وعلامات الابتسامة على شفتيه، بلطف: «يا ولدي، كل سؤال صادق هو مصباح في ظلام الجهل، تمامًا كالمسافر الذي يسير في ليل مظلم ويسأل كل من يعرف الطريق ليعثر على سبيله. واعلم أن كثيرين ممن ضلوا، كان ذلك لأنهم امتنعوا عن السؤال واعتبروا أنفسهم مكتفين بذاتهم. أما من يبحث عن الحقيقة بتواضع ونية صافية، فلن يخيب أبدًا، بل كل إجابة تقربه خطوة نحو اليقين وتزيد من نور إيمانه.» هذه الكلمات الحكيمة أراحت قلب الشاب، فخطا خطوات أثبت في طريق طلب العلم وتعميق إيمانه، ووجد طمأنينة أثمن من أي كنز.