الاستفسار الصادق والمتواضع لفهم الله والدين بشكل أفضل ليس قلة احترام، بل يقوي الإيمان. أما الأسئلة المفرطة بدافع العناد، أو الجدال، أو الخوض في الأمور الغيبية وفوق فهم البشر، فقد تكون غير مستحسنة وحتى ضارة.
في تعاليم القرآن الكريم السامية، يتم تشجيع السعي للمعرفة والتأمل العميق في الخلق والآيات الإلهية بشدة. فالإنسان كائن فضولي بطبعه، ويملك عطشًا فطريًا لمعرفة جذوره الوجودية، ومعنى الحياة، وطبيعة خالقه. يدعو القرآن في آيات عديدة الناس إلى التأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، بما في ذلك النظام المذهل للكون، والظواهر الطبيعية، وحتى داخل الإنسان نفسه. هذه الدعوة إلى التفكير البناء والأسئلة ليست قلة احترام، بل هي طريق لتعميق الإيمان وفهم أفضل للرب. عندما تُطرح الأسئلة بإخلاص وتواضع وبهدف الوصول إلى الحقيقة وراحة القلب، فإنها ليست مذمومة فحسب، بل هي خطوات على طريق النمو الروحي والتقرب إلى الله. هذه الأنواع من الأسئلة تدل على حيوية الفطرة الإلهية والشوق لفهم المزيد من حكم الله. كان الأنبياء والأولياء الصالحون أنفسهم أمثلة رائعة للباحثين عن الحقيقة، الذين سعوا دائمًا إلى المعرفة الإلهية لفهم رسالتهم وإرشاد الناس. لذلك، فإن الأسئلة التي تؤدي إلى فهم وبصيرة أكبر كانت دائمًا مؤكدة. هذا النوع من الأسئلة يوجه الإنسان نحو التعمق في آيات القرآن والحديث، وكذلك التأمل في الوجود، ويفتح آفاقًا جديدة للمعرفة. علاوة على ذلك، فقد تشكلت العديد من الأحكام والمبادئ الدينية من خلال أسئلة الصحابة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وإجاباته، وهو ما يدل على أهمية ومشروعية طرح الأسئلة. ولكن، إلى جانب هذا التشجيع على طرح الأسئلة البناءة، يحذر القرآن الكريم في حالات معينة من كثرة الأسئلة أو الأسئلة ذات النوايا غير المناسبة. هذه التحذيرات لا تعني حظرًا مطلقًا للأسئلة، بل تتعلق بنوع ونية السائل، وكذلك طبيعة الموضوع الذي يُسأل عنه. على سبيل المثال، في سورة المائدة، الآية 101 و 102، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ." هذه الآيات توضح بجلاء أن بعض الأسئلة، بدلاً من أن تؤدي إلى الهداية، قد تؤدي إلى الحيرة، أو المشقة، أو حتى الكفر. هذه الأنواع من الأسئلة غالبًا ما تقع في عدة فئات: أولاً، الأسئلة التي يكون الغرض منها فقط الاعتراض، أو الجدال، أو تحدي الأحكام والحقائق الإلهية دون سبب وجيه. هذه الأسئلة لا تنبع من فضول صادق، بل من العناد، أو الاستهزاء، أو الاختبار. ثانياً، الأسئلة التي تتعلق بالأمور الغيبية البحتة وطبيعة الذات الإلهية أو التفاصيل التي تفوق تصور البشر ولا يمكن إدراكها. بما أن هذه الأمور لا تندرج ضمن نطاق الفهم والتصور البشري، فإن السؤال عنها قد يؤدي إلى التشبيه، أو التجسيم، أو الانحراف في العقيدة. ينصحنا القرآن بأن نكتفي بما كشفه الله في هذه الأمور وأن نمتنع عن التفكير في "كيفية" الذات الإلهية، لأن هذا لا يثمر إلا الحيرة والضلال. ثالثًا، الأسئلة التي قد تؤدي إلى فرض قوانين أو قيود إضافية كان الله قد يسّرها على عباده بحكمته. ومثال ذلك الشهير قصة بقرة بني إسرائيل في سورة البقرة، حيث كثرة أسئلتهم غير المجدية وتفاصيلها عقّدت الأمر عليهم. رابعًا، الأسئلة التي تُطرح بقصد قلة الاحترام، أو الوقاحة، أو بهدف تحدي الرب القدير. هذه الأسئلة لا قيمة لها فحسب، بل هي بعيدة عن أدب العبودية وتضر بعلاقة الإنسان بخالقه. لذلك، فإن معيار "قلة الاحترام" في طرح الأسئلة عن الله ليس فعل السؤال بحد ذاته، بل النية، والهدف، والنبرة، وطبيعة ما يُسأل عنه. إذا كان السؤال بآداب واحترام وإخلاص وبهدف زيادة المعرفة والقرب من الله، فمن منظور القرآن ليس قلة احترام فحسب، بل هو عبادة وطريق لتقوية الإيمان. أما إذا كان السؤال نابعًا من الجدال، أو العناد، أو الفضول في الأمور الغيبية التي نهى الله عنها، فقد يكون مذمومًا وخطيرًا. المؤمن الحقيقي هو الذي يعلم عن أي الأمور يسأل، وفي أي الأمور يكتفي بالتسليم والتوكل على حكمة الله. في الختام، يؤكد روح الإسلام على الاعتدال والوسطية في جميع الأمور، بما في ذلك طرح الأسئلة، بحيث لا يُغلق باب اكتساب المعرفة، ولا يضل الإنسان في وادي الفضول غير المجدي والضار.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، جاء شاب فضولي يُدعى "فهم" إلى عالم حكيم وظل يسأله بلا انقطاع. ذات يوم، سأل العالم: "يا شيخ، ما حدود هذا العالم والعالم الآخر، وما السر الذي يكمن في كل ذرة من هذا التراب؟" ابتسم العالم وقال: "يا فهم، لقد سألت سؤالاً جيدًا. لكن المعرفة التي تقودك إلى الفهم الحقيقي ليست في عد كل حبة تراب ولا في قياس الأبعاد اللانهائية للكون. بل هي في معرفة ما هو مطلوب منك وكيف تتقرب إلى خالقك بأدب العبودية. كثرة السؤال عن أمور تذهل العقل وتوقع الشك في القلب، كمثل محاولة شرب الماء من البحر بغربال؛ لا تزيد إلا العطش ولا تأتي بثمر. بدلًا من ذلك، تأمل فيما أُظهر لك، واستسلم لما هو خفي، فلكل حجاب وقته ولكل سر موعده." أخذ فهم هذه النصيحة على محمل الجد وعلم أن السؤال الصادق الهادف هو مفتاح الانفتاح، أما الأسئلة غير اللائقة والتي تنبع من قلة الأدب، فتصبح حجابًا بحد ذاتها.