القرآن يذم الشكوك السلبية التي تؤدي إلى الكفر (الريب)، لكنه يعتبر الشكوك الصادقة النابعة من البحث عن الحقيقة جزءاً من مسار الإيمان نحو اليقين. المهم هو كيفية التعامل مع الشك وتحويله إلى جسر لتعميق الإيمان.
إن فهم مفهوم 'الشك' في الإيمان من منظور القرآن الكريم يتطلب فحصاً دقيقاً وتمييزاً بين أنواع مختلفة من الشك. القرآن الكريم يذم بشكل عام الشكوك التي تؤدي إلى الكفر، أو إنكار الحق، أو النفاق، ويصفها بأنها حالات غير مرغوب فيها. ولكن هل يعتبر كل نوع من الشك، حتى الشكوك المؤقتة الناجمة عن الفضول والبحث عن الحقيقة، خطيئة؟ إجابة القرآن على هذا السؤال تأتي مصحوبة بدقائق ترسم المسار الروحي للإنسان. هذا سؤال عميق ومهم للغاية لكل سالك طريق الحقيقة، لأنه على مدى مسيرة الإيمان، قد يواجه عقل الإنسان أحياناً أسئلة وغوامض قد تدفعه إلى التردد. المهم هو كيف نتعامل مع هذه الترددات والأسئلة وكيف نستفيد منها لتعميق إيماننا. القرآن الكريم ينهى بشدة عن 'الرَّيب' (الشك المقترن بالاضطراب والتشاؤم والترددات المزعجة). هذا النوع من الشك ينجم عادة عن عدم قبول الحق، أو الغرور، أو عدم الاكتراث بالآيات الإلهية، ويبعد الفرد عن الهدى. تذم آيات عديدة هذا النوع من الشك، لأنه غالباً ما يحدث في مواجهة دلائل واضحة وجلية، ويسعى إلى إيجاد الأعذار والإنكار بدلاً من البحث عن الحقيقة. على سبيل المثال، في سورة الحج الآية ٥٥، يقول الله تعالى: "وَلا يَزالُ الَّذينَ كَفَروا في مِرْيَةٍ مِنهُ حَتّي تَأتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً اَوْ يَأتِيَهُم عَذابُ يَومٍ عَقيمٍ"، أي: "ولن يزال الذين كفروا في شك وارتياب في القرآن حتى تأتيهم الساعة فجأة، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة الذي لا رحمة فيه." هذه الآية تشير إلى الشكوك التي تتأصل في الكفر والعناد وتمنع قبول الحقيقة. كذلك، في آيات أخرى، يُذكر الشك في القيامة، أو في رسالة الأنبياء، أو في قدرة الله ووحدانيته، كصفة للكفار والمنافقين، لأن هذه الشكوك ناتجة عن عدم الرغبة في قبول الحقيقة والرغبة في الثبات على الجهل والضلال. ومع ذلك، يشير القرآن في بعض الحالات إلى الشك كـمرحلة طبيعية في طريق البحث عن اليقين، بشرط أن يؤدي هذا الشك إلى التحقيق والتعمق. قصة النبي إبراهيم (عليه السلام) في سورة البقرة الآية ٢٦٠ هي مثال بارز على ذلك. طلب إبراهيم من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى لـ "يطمئن قلبه" و "يزداد يقينه." هذا الطلب لم يكن من باب عدم الإيمان، بل من باب الرغبة في الفهم الأعمق والوصول إلى مرتبة أعلى من اليقين. والله لم يوبخه، بل استجاب له وأراه كيفية إحياء الموتى. هذا يدل على أن بعض الأسئلة وحتى الترددات الداخلية التي تُطرح بهدف الوصول إلى يقين أكبر وراحة قلبية، ليست خطيئة فحسب، بل يمكن أن تكون درجة للارتقاء بالإيمان. بمعنى آخر، الشكوك الصحية والفعالة هي تلك الترددات التي تتم بهدف الوصول إلى الحقيقة، والبحث عن المعرفة، وتعميق الفهم للحقائق الدينية. هذا النوع من الشك يحفز التفكير والتدبر والتعقل. القرآن الكريم يدعو الإنسان مراراً إلى التفكير في آيات الله، في خلق السماوات والأرض، وفي آيات الله. هذا الدعوة إلى التفكير تستلزم قبول أن بعض الأمور قد تكون غامضة للإنسان في البداية وتحتاج إلى البحث والتأمل. إذا رأى الإنسان كل شيء بديهياً ولا يحتاج إلى تفكير منذ بداية الطريق، فلن يصل أبداً إلى عمق الحقائق. لذلك، يمكن تقسيم الشك في الإيمان إلى فئتين: الشك السلبي (الرَّيب) الذي يؤدي إلى الكفر والإنكار وهو خطيئة، والشك الإيجابي (في حدود السؤال والفضول الصادق) الذي هو جزء من مسار نمو الإيمان والوصول إلى اليقين. هذا النوع من الشك ليس خطيئة، بل يمكن أن يكون فرصة لفهم أعمق لله وحقائق الدين. المهم هو كيف يتعامل الفرد مع شكه: هل يستسلم له ويصرف وجهه عن الحقيقة، أم يستخدمه كجسر للعبور نحو اليقين والمعرفة؟ إن الحل القرآني لمواجهة الشكوك الإيجابية هو التفكير، والتدبر في الآيات الإلهية، وطلب الهداية من الله، والتشاور مع أهل العلم، وفي النهاية السعي لاكتساب اليقين وراحة القلب. الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي يخرج منتصراً من الأسئلة والغموض، وقد ترسخ بالبصيرة والمعرفة. هذا المسار، هو مسار العديد من الأنبياء والأولياء الذين ساروا في البحث عن اليقين، ووصلوا إلى درجات عالية من المعرفة. في الختام، يمكن القول أن القرآن يركز بشكل كبير على "اليقين" و "الاطمئنان القلبي". هذا اليقين هو ثمرة الحركة في المسار الصحيح لمواجهة الشك. ليس الشك خطيئة إذا كان هدفه الوصول إلى اليقين، بل إن هذا البحث والتعمق يمكن أن يضيف قوة وثباتاً لإيمان الفرد. لذلك، الشك بحد ذاته ليس خطيئة، بل رد الفعل والتعامل معه هو الذي يحدد. إذا أدى الشك إلى العناد والإنكار والإعراض عن الحقيقة، فهو مذموم. أما إذا كان محركاً للتفكير والتدبر والوصول إلى اليقين، فهو جزء طبيعي وضروري حتى من الرحلة الروحية نحو كمال الإيمان. المؤمن الحقيقي هو من يواجه أسئلته وغوامضه بصدق في كل مرحلة من مراحل الحياة، ويعتمد على الهداية الإلهية والحكمة، ويبحث عن الإجابات التي تقربه من مصدر الحقيقة. هذه العملية الديناميكية، هي علامة على إيمان حيوي ونشط وليس ضعفاً فيه.
يُروى أنه في زمن ليس ببعيد، عاش رجل زاهد اشتهر باسم 'عارف'. أمضى عارف حياته في طلب الحقيقة وكشف أسرار الوجود. أحياناً، كانت أسئلة كالغيم المتفرق تظهر في قلبه، فتبعث الشك في عقله. لكن عارف لم يتوقف أبداً عن البحث ولم يرَ هذه الشكوك أبداً علامة على ضعف الإيمان، بل اعتبرها نافذة لأسئلة أعمق. كان يعلم أن بستان سعدي يقول: "اجلس في خلوة وتأمل جيداً، حتى تصل إلى مكان لا تعلم فيه شيئاً عن نفسك." لذا، كلما أحاط به الشك، ازداد تفكيره وتدبره في الآيات الإلهية وآثار الخلق، وجلس يتحدث مع علماء عصره. أصبح كل تردد جسراً للعبور إلى اليقين، وكل سؤال مصباحاً ينير دربه. في النهاية، وصل عارف إلى سكينة في الإيمان جعلت قلبه، كمرآة مشرقة، يعكس الحقيقة، ولم يخشَ أبداً الأسئلة أو الغموض، لأنه كان يعلم أن الإيمان الحقيقي يزداد قوة من خلال التحديات والبحث.