نعم، المعاناة النفسية والعاطفية هي من الابتلاءات الإلهية المشار إليها في القرآن. هذه الاختبارات مصممة لتنقية الروح، وتقوية الإيمان، والتقرب أكثر إلى الله، وتتطلب الصبر، والتوكل على الله، وذكره.
من منظور القرآن الكريم، الحياة الدنيا هي بأكملها سلسلة من الابتلاءات والامتحانات، وكل إنسان يتعرض للاختبار الإلهي بطريقة ما. هذه الامتحانات لا تقتصر على البلايا الجسدية، أو النقص المالي، أو فقدان الأحبة، بل إن الآلام النفسية والعاطفية هي بلا شك جزء من هذا النظام الإلهي للاختبار. يوضح القرآن الكريم أن البشر يُختبرون ليس فقط بالصعوبات الخارجية، ولكن أيضًا بالخوف، والقلق، والحزن، واليأس، وهي المصادر الرئيسية للمعاناة النفسية. هذه الاختبارات ليست لغرض العقاب، بل لتنقية الروح، ورفع درجات المؤمنين، وإظهار صدق الإيمان، وتقوية صلة العبد بالخالق. الهدف الأسمى من هذه الامتحانات هو توجيه الإنسان نحو الكمال والبصيرة الأعمق تجاه الحقيقة الوجودية وهدف الخلق. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". في هذه الآية، ذُكر "الخوف" صراحة كأحد وسائل الابتلاء الإلهي، والذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالحالة النفسية للإنسان. يمكن أن ينشأ الخوف من المستقبل المجهول، أو التهديدات الاجتماعية، أو غياب الأمان، وكلها تؤدي إلى معاناة نفسية. كما أن فقدان الأموال، والأنفس، والثمرات، كل منها يجلب معه آلامًا نفسية عميقة مثل الحزن والأسى واليأس والقلق. تبين هذه الآية أن رد فعل الإنسان تجاه هذه الشدائد، أي الصبر والمصابرة، هو معيار لتقييم الإيمان والمكافأة الإلهية. والصبر في مواجهة المعاناة النفسية يعني عدم الاستسلام لليأس، والحفاظ على الأمل، واللجوء إلى الله. علاوة على ذلك، نقرأ في سورة العنكبوت، الآيتين 2-3: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". هذه الآيات توضح بجلاء أن الابتلاء جزء لا يتجزأ من مسار الإيمان. فالمعاناة النفسية، مثل الشك، والتردد، والوسوسة، أو الضغوط النفسية التي قد تتحدى إيمان الفرد، هي من مصاديق هذه الاختبارات. ومن خلال هذه الاختبارات، يقيس الله تعالى مدى صمود الأفراد وثباتهم على طريق الدين وتمسكهم بالمبادئ الأخلاقية. هذه الابتلاءات هي فرصة للبشر، من خلال الجهد والتوكل على الله، لتجاوز مراحل الحياة الصعبة وتقوية إيمانهم. من أهم حكم المعاناة النفسية تطهير الذنوب وتكفير السيئات. ففي بعض الأحيان تكون هذه الآلام كفارة لأفعال الإنسان الماضية وتسبب تطهيره. كما أن هذه الشدائد توفر فرصة للإنسان للاستيقاظ من الغفلة والعودة إلى الله. في لحظات الشدة النفسية، يشعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بالحاجة إلى الملاذ والسلام الداخلي، وهذا الشعور يدفع به نحو الدعاء، والابتهال، والتضرع إلى الباري عز وجل. هذا القرب من الله هو بحد ذاته أعظم نعمة، ويعني ارتقاء مكانة الفرد الروحية. لقد عانى النبي يعقوب (ع) من ألم نفسي عظيم بسبب فقدان يوسف (ع)، لكنه صبر وقال: "قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (سورة يوسف، الآية 86). وهذا يظهر أن حتى أنبياء الله يعانون من الآلام النفسية، وحلهم هو اللجوء إلى الله وإظهار الضعف أمامه وحده. الحلول القرآنية لمواجهة المعاناة النفسية تشمل الصبر، والصلاة، والذكر، والتوكل، والتسليم لقضاء الله. يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". الذكر وذكر الله، خاصة في أوقات الأزمات النفسية، يمكن أن يكون مهدئًا ومريحًا. كما أن الصلاة، كعمود الدين ومعراج المؤمن، هي وسيلة قوية للتواصل مع مصدر الوجود واكتساب السلام والقوة الروحية. والتوكل على الله يعني أن يبذل الإنسان كل جهده، لكنه يترك النتيجة لله، ويعلم أن إرادة الله غالبة على كل شيء، وأن كل ما يحدث له حكمة خفية. في الختام، إن المعاناة النفسية، وإن كانت مؤلمة، هي فرص للنمو، واكتشاف الذات، وتقوية الإيمان. إنها تجبرنا على الغوص في أعماق وجودنا والتحرر من التعلقات الدنيوية. هذه الاختبارات لا تكشف فقط عن نقاط ضعفنا، بل تبرز أيضًا إمكانياتنا الخفية للصمود والتحمل. بفهم حقيقة أن المعاناة النفسية يمكن أن تكون أيضًا امتحانًا إلهيًا، يمكننا تغيير نظرتنا إليها. فبدلاً من الغرق في اليأس، يمكننا أن نراها درجة للوصول إلى الكمال والرضا الإلهي. هذه النظرة تمكن الإنسان، حتى في خضم العواصف النفسية، من ربط مرساته الأملية بالله والوصول إلى سكينة أعمق تتجاوز السكينة السطحية والعابرة في الدنيا.
يُروى أنه في العصور القديمة، كان هناك رجل حكيم، على الرغم من فقده لماله وأولاده، كان دائمًا يحتفظ بوجه هادئ وقلب مفعم بالأمل. سأله أصدقاؤه: "كيف لك أن تبتسم في كل هذه البلايا ولا شيء من الألم يكسرك؟" أجاب الحكيم بابتسامة لطيفة: "كلما ضربتني موجة عاتية بصخرة، أتذكر أن هذه الموجة بحر يقوده ربي. لذا أعلم أن هذه الشدة ليست سوى اختبار لصبري وتوكلي عليه. وبما أنني أعلم أن نهاية كل ليل مظلم فجر أمل، فإن قلبي يطمئن، وروحي تعلم من هو ملجؤها الوحيد." هذه الحكاية السعدية تذكرنا بأن المعاناة النفسية، وإن كانت صعبة، هي فرص لمعرفة عمق الإيمان والتوكل على الخالق، وتؤدي إلى سكينة حقيقية.