الإرهاق من العبادة ليس في القرآن علامة ضعف أو فقدان هدف، بل هو فرصة لإعادة التقييم، والاعتدال، وتقوية الصلة بالله. يؤكد القرآن على التيسير في العبادة بما يتناسب مع قدرة الإنسان، ويحث المؤمنين على الثبات بالصبر والصلاة.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، لم يُعتبر الإرهاق من العبادة بشكل مباشر علامة على ضعف الإيمان أو فقدان الهدف؛ بل يقدم القرآن توجيهات شاملة وحكيمة لفهم والتعامل مع الحالات البشرية في مسار العبودية. فالله تعالى، وهو خالق الإنسان والعليم بكل ضعفاته وقواه، لا يضع أبداً عبئاً ثقيلاً على عباده يفوق طاقتهم. هذه الحقيقة الأساسية مذكورة بوضوح في الآية 286 من سورة البقرة: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»؛ أي أن الله لا يكلف نفساً إلا ما تستطيع. هذه السهولة والرحمة الإلهية تشير إلى أنه إذا شعر الفرد بالتعب من العبادة، فهذا ليس بالضرورة دليلاً على ضعف إيمانه، بل قد يكون لأسباب متعددة تتطلب الانتباه وإعادة التقييم، لا اليأس والإحباط. أحد أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى الشعور بالإرهاق في العبادة هو عدم مراعاة الاعتدال والوسطية. فالإسلام ليس دين إفراط أو تفريط، بل يؤكد بشدة على مبدأ «الوسطية». إذا تجاوز الفرد قدرته في العبادة وأهمل حقوق جسده ونفسه، فمن الطبيعي أن يصيبه التعب والملل. وهذا التعب ليس علامة ضعف في الإيمان، بل هو إنذار للعودة إلى التوازن ومراعاة الحدود التي وضعها الإسلام نفسه لحياة روحية صحية ومستدامة. ويشير القرآن الكريم إلى هذا المبدأ في آيات متعددة، مؤكداً أن الله يريد لعباده اليسر لا العسر: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة: 185). هذه الآية، التي وردت في سياق الصيام، تحمل معنى أوسع وتشير إلى الطبيعة العامة للأحكام الإلهية التي تهدف إلى توفير السهولة والراحة للإنسان، لا المشقة والتعب. بالإضافة إلى ذلك، قد ينبع الإرهاق من العبادة أحياناً من أسباب غير روحية، مثل التعب الجسدي، الضغوط النفسية، المشاكل الدنيوية، أو حتى عدم المعرفة الكافية بفلسفة وِحكَم العبادات. في مثل هذه الظروف، يقدم القرآن الكريم حلولاً عملية تبعث على الأمل. وأهم هذه الحلول هو اللجوء إلى الصبر والصلاة. في الآية 153 من سورة البقرة نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»؛ أي يا أيها الذين آمنوا، استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين. هذه الآية تعلمنا أنه في مواجهة أي صعوبة، بما في ذلك الصعوبات أو الإرهاق الروحي، يجب أن نطلب المساعدة من هاتين الأداتين الإلهيتين القويتين. فالصبر يعني الثبات والمثابرة في مواجهة المشاكل، والصلاة تعني تجديد العهد والاتصال بالمصدر الذي لا ينضب من القوة والهدوء. عندما يشعر الفرد بالإرهاق، يمكن أن يكون ذلك فرصة لإعادة تقييم جودة العبادة وليس فقط كميتها. يؤكد القرآن الكريم بشدة على الإخلاص وحضور القلب في العبادة. ففي بعض الأحيان، تكون عبادة قصيرة ذات حضور قلبي كامل أعمق تأثيراً من عبادات طويلة بلا تركيز كافٍ. التركيز على الجودة يمكن أن يمنع الملل ويزيد من المتعة الروحية للعبادة. فالهدف الأساسي من العبادة هو ذكر الله والتقرب إليه: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد: 28)؛ ألا بذكر الله تطمئن القلوب. إذا كانت العبادة تجلب التعب والملل بدلاً من السكينة، فيجب مراجعة طريقة أدائها أو الحالة الداخلية للنفس. في الختام، يمكن اعتبار الإرهاق من العبادة مرحلة طبيعية في السير والسلوك الروحي؛ مثل أي رحلة طويلة قد يصاحبها صعود وهبوط ولحظات تعب. هذه اللحظات هي فرص لاكتشاف الذات، وتصحيح المسار، والفهم الأعمق للرحمة والفضل الإلهي. يدعو القرآن الكريم المؤمنين إلى الثبات والاستمرارية في طريق الحق، لكنه لا يجبرهم أبداً على فعل ما يفوق طاقتهم. لذلك، إذا انتابنا هذا الشعور، يجب أن نعتبره إشارة للتأمل، والراحة، وتجديد النية، والعودة إلى مبدأ الاعتدال، لا سبباً للشك في الإيمان أو فقدان الهدف. إنه دعوة للإصلاح والنمو، وليس اتهاماً بالضعف.
يُروى أن درويشاً زاهداً كان يقضي لياليه في العبادة ويصوم أيامه. ولكن بعد فترة، غلبه شعور بالإرهاق والملل، وأصبحت العبادة ثقلاً عليه. فذهب بقلب مضطرب إلى شيخ حكيم وحكى له حاله. قال الشيخ بلطف: «يا بني، العبادة ليست بالكثرة، بل بحضور القلب وثبات القدم. إن الله يريد منك قلباً مشتاقاً ونية خالصة، لا جسداً منهكاً وروحاً يائسة. قليل من العبادة بحماس وإخلاص خير من كثير من العبادة بلا رغبة أو انتباه. لا تُثقل على نفسك كي لا تنقطع عن الطريق، فالمداومة على القليل أفضل من الانقطاع عن الكثير. خذ الأمور برفق كي لا تقع، فإن الله رحيم بعباده ولا يكلّف نفساً إلا وسعها.» اطمأن الدرويش بهذه الكلمات الحكيمة، وأدرك أن طريق الحق هو طريق الاعتدال والوعي، وليس المشقة العبثية.