لا، الجهد الكبير بدون بركة ليس بالضرورة علامة على ضعف الإيمان. البركة أعمق من النتائج المادية، وقد تكون اختبارًا إلهيًا لتقوية الصبر والتوكل.
إن فهم العلاقة بين الجهد البشري والبركة الإلهية وقوة الإيمان يتطلب تأملاً عميقاً في تعاليم القرآن الكريم. الإجابة البسيطة والقاطعة على السؤال حول ما إذا كان الجهد الكبير بدون بركة علامة على ضعف الإيمان هي 'لا'، ولكن هذه الإجابة تتطلب توضيحاً وتفصيلاً واسعين. يؤكد القرآن الكريم باستمرار على أهمية الجهد والسعي واستخدام جميع القدرات البشرية. في آيات عديدة، يشجع الله البشر على العمل والسعي، قائلاً: 'وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ'. هذا التأكيد على الاجتهاد يدل على أن الإنسان ملزم ببذل قصارى جهده لتحقيق أهدافه وعدم البقاء خاملاً. ولكن مفهوم 'البركة' في المنظور الإسلامي يتجاوز بكثير مجرد المكاسب المادية والنتائج الظاهرية للجهود. البركة هي زيادة روحية ونوعية يمنحها الله في العمل، المال، العمر، أو أي جانب من جوانب حياة الإنسان، بحيث ينتج عن الكمية القليلة ثمار وفيرة، أو أن تكون الحياة مصحوبة بالسلام والرضا والخير. وبالتالي، فإن عدم ملاحظة النتائج المادية، أو ما نسميه عادة 'البركة'، لا يعني بالضرورة غياب البركة. بل قد تتجلى البركة في أشكال أخرى، مثل الطمأنينة القلبية، الصحة، الهداية، الفرص الروحية، أو حتى كدرس للنمو الروحي والكمال الشخصي. في بعض الأحيان، يحجب الله عن عباده ما يبدو أنه نجاح مادي ليوجههم نحو قيم أسمى وأكثر ديمومة. ينص القرآن الكريم صراحة على أن الرزق والنتائج النهائية للأمور هي بيد الله تعالى. الإنسان يسعى، ولكن الله هو الذي يقدّر النتيجة. هذا لا يعني تجاهل الجهد؛ بل يعني فهم الحقيقة بأن الجهد هو وسيلة لتحقيق هدف وأداء واجب، ولكن التحقيق النهائي للهدف وحصول البركة يتوقف على الإرادة والحكمة الإلهية. يمنع هذا المنظور الأفراد من اليأس في مواجهة عدم تحقيق النتائج المرجوة، ويدعوهم بدلاً من ذلك إلى الصبر والتوكل والتسليم للقضاء الإلهي. فالشخص الذي يسعى بكل كيانه ولكن لا يرى النتيجة المرجوة، إذا كان يمتلك إيماناً قوياً، فلن ييأس. بل سيؤمن بحكمة الله ويفهم أن خيره ومنفعته تكمن فيما قدره الله له. علاوة على ذلك، الحياة الدنيا هي ميدان للاختبار والابتلاء. يقول الله في القرآن إنه سيختبر الناس بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات. لذلك، قد يكون الجهد الكبير بدون نتائج مرضية هو بحد ذاته اختبار إلهي لقياس صبر العبد وشكره وتوكله. في مثل هذه الظروف، يظهر ضعف الإيمان عندما يفقد الفرد صبره في مواجهة هذه المحن، أو ينسى الشكر، أو يقع في اليأس، أو ينحرف عن طريق العبودية. ولكن إذا تحلى بالصبر على الرغم من عدم تحقيق النتيجة المرجوة، وتوكل على الله، واستمر في جهده بنية خالصة، فإن هذا ليس علامة على ضعف الإيمان؛ بل يمكن أن يكون علامة على قوة وعمق إيمانه. فمثل هذا الفرد لديه يقين بوعد الله بمكافأة الصابرين والمتوكلين، ويعلم أن أجر جهوده محفوظ عند الله، حتى لو لم تثمر مادياً في الدنيا. علاوة على ذلك، في بعض الأحيان قد يكون غياب البركة الظاهر ناتجًا عن ذنوب الإنسان وتقصيراته، وهذا بحد ذاته يمكن أن يُفسر كنوع من الضعف في الإيمان العملي. لكن هذا ليس حكماً عاماً ودائماً. أحياناً يكون الفرد مؤمناً وصالحاً، ولكن لحفظ إخلاصه، أو لأسباب لا يعلمها إلا الله، تكون النتائج المادية لجهوده محدودة. في الختام، يجب القول إن معيار قياس الإيمان ليس فقط النجاحات الدنيوية والمادية. بل يتجلى الإيمان الحقيقي في الثبات، والشكر في النعمة، والصبر في البلاء، والتوكل في الأمور، وحسن الظن بالله. لذلك، فإن الجهد الكبير بدون بركة ظاهرة، بحد ذاته، ليس علامة على ضعف الإيمان، بل يمكن أن يكون أرضاً خصبة لنمو وكمال الإيمان والتوكل الحقيقي، إذا نظر الإنسان إليه ببصيرة وحكمة إلهية.
جاء في بستان سعدي أنه كان هناك فلاح مجتهد وعامل بجدٍّ، يروي أرضه بكل قلبه ويزرع البذور. لم يكفَّ عن السعي أبداً، وكان يعمل من الفجر حتى المساء في حقله. ولكن قضاء الله وقدره، كان محصوله كل عام قليلاً وتافهاً، بينما كان جارٌ أقل اجتهاداً يرى بركة عجيبة في أرضه، ويمتلئ مخزنه بالحبوب. ذات يوم، ذهب الفلاح المتعب والمكسور القلب إلى درويش حكيم، كان بصيراً في الحكمة الإلهية، وقال له متنهداً ومتألماً: 'يا حكيم، أنا أسعى بكل جهدي، وأعمل بجد لا يكل، فلماذا لا توجد بركة في عملي، ومحصودي قليل هكذا؟ هل جهدي بلا أجر أم أن إيماني قد ضعف؟' ابتسم الدرويش بلطف وقال: 'يا صديقي، يدك هي التي تبذر البذور، ولكن السحاب هو الذي يمطر، والشمس هي التي تشرق. جهدك واجبك، وأجرك محفوظ عند الله. أما البركة، فهي رزق يوزعه الله بحكمته، لا بقدر جهود عباده. ربما في قلة محصولك حكمة خفية؛ ربما هي درس في الصبر أو في التحرر من التعلق المفرط بالدنيا. البركة الحقيقية هي طمأنينة القلب والرضا بالقضاء الإلهي، وليس مجرد امتلاء المخازن. قلقك من النتيجة هو علامة على التعلق بالدنيا، وليس ضعف الإيمان. الإيمان القوي هو أن تثق بحكمة الله حتى في الشدائد، وأن تعلم أنه يريد الأفضل لعباده. لذا، اعمل وسلم قلبك له، فهو خير الرازقين.' عند سماع هذه الكلمات، هدأت نفس الفلاح، وعلم أن جهده وسيلة وأن المقادير بيد الله. ومنذ ذلك الحين، استمر في عمله بقلب أهدأ وتوكل أكبر، ووجد في هذا الهدوء بركة أخرى لم يكن يعرفها من قبل.