من منظور القرآن، السعادة بدون الله هي مجرد لحظة عابرة ولا تجلب راحة البال الحقيقية. السعادة الحقيقية والدائمة تنبع من الاتصال بالله وذكره، لأن القلوب لا تطمئن إلا بذكره.
إن السؤال عن ماهية السعادة الحقيقية وعلاقتها بالله هو أحد أعمق وأساسي الأسئلة التي شغلت الذهن البشري عبر التاريخ. للوهلة الأولى، قد يبدو أن الأفراد يمكنهم تحقيق السعادة من خلال اكتساب الثروة والسلطة والشهرة والملذات الجسدية أو النجاحات الدنيوية، حتى دون أن يكون لديهم إيمان بالله أو يعيروا اهتمامًا له. يعيش العديد من الناس في مجتمعات مختلفة، على ما يبدو دون اعتبار للجوانب الروحية، حياة ناجحة ظاهريًا ويتمتعون بلحظات من السرور والرضا. ولكن هل هذا النوع من السعادة هو «السعادة الحقيقية» والمستدامة؟ تعاليم القرآن الكريم تقدم نظرة عميقة ومختلفة لهذه المسألة يمكن أن تساعدنا في فهم هذا الفارق. فالقرآن لا يجيب عن هذا السؤال فحسب، بل يضيء الطريق إلى السعادة الحقيقية والراحة الداخلية أيضًا. من منظور القرآن الكريم، السعادة الحقيقية والمستدامة هي شيء يتجاوز الملذات العابرة والمعتمدة على العوامل الخارجية. هذا النوع من السعادة له جذور عميقة في اتصال الإنسان بخالق الكون، وقبوله للقضاء الإلهي، وإيجاد المعنى والهدف في الحياة، والالتزام بالقيم الأخلاقية والإنسانية. يؤكد القرآن صراحة أن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله. في سورة الرعد، الآية ٢٨، يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). تشير هذه الآية الأساسية إلى أن الطمأنينة القلبية والراحة التي تعد جزءًا أساسيًا من السعادة الحقيقية، لن تتحقق بدون ذكر الله وحضوره في حياة الإنسان. فبينما قد يملأ الإنسان لحظات الغفلة بملذات عابرة، فإن هذه الملذات لا تؤدي أبدًا إلى راحة روحية عميقة ومستدامة. السعادات الدنيوية، مهما كانت جذابة ومغرية، لها طبيعة زائلة وغير مستقرة. يشير القرآن الكريم مرارًا إلى عدم ثبات الحياة الدنيا وزينتها. في سورة آل عمران، الآية ١٤، يقول الله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب). تذكرنا هذه الآية بأن هذه الملذات هي مجرد «متاع الحياة الدنيا»؛ أي أدوات مؤقتة ليست غاية في ذاتها ولا يمكن أن تكون مصدرًا للسعادة اللامتناهية. فالأفراد الذين يتعلقون بهذه المتاع فقط، يواجهون في النهاية فراغًا داخليًا وشعورًا بالعبث، لأن روح الإنسان تحتاج إلى شيء يتجاوز الماديات. عندما يقطع الإنسان صلته بالله أو يتجاهله في حياته، يصاب بنوع من الاضطراب والضيق المعيشي الروحي، حتى لو كان في قمة الرفاهية المادية. يشير القرآن في سورة طه، الآية ١٢٤، إلى هذه الحقيقة المرة: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ» (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى). لا تعني «معيشة ضنك» الفقر المادي فحسب، بل تشير إلى حياة مليئة بالقلق والاضطراب واليأس والعبث، وهو ما يلاحظ حتى بين أغنى الأفراد الذين لا يملكون إيمانًا. تنبع هذه الصعوبة من غياب سند قوي ومصدر للراحة الداخلية. فالذي لا يملك الله لا يستطيع أن يجد معنى حقيقيًا عند مواجهة المشاكل واليأس والإحباط والموت والفناء، وبالتالي يقع في حيرة وضياع. السعادة الحقيقية التي يشير إليها القرآن هي نوع من السلام والرضا الداخلي الذي يصاحب الإنسان ليس فقط في السراء، بل في الضراء والمصائب أيضًا. المؤمن الذي يؤمن بالله يعلم أن كل ما يحدث هو بمشيئة الله، وأن وراء كل صعوبة حكمة. هذه النظرة تمنحه القدرة على تجاوز الأزمات بالصبر والتوكل على الله، وتحقيق الطمأنينة حتى في قلب المصائب. هذا هو ما يسمى «السعادة الداخلية» وهو مرادف لمفهوم «السعادة» في الأدب الإسلامي. السعادة التي لا تتحقق إلا في ظل الإيمان بالله والعمل الصالح، وتصاحب الإنسان في الدنيا والآخرة. هذا النوع من السعادة مستقر ودائم لأنه متصل بمصدر أبدي لا يتغير وهو الذات الإلهية. بعبارة أخرى، قد تكون السعادة بدون الله تجربة سطحية ولحظية تنبع من عوامل خارجية. هذا النوع من السعادة يشبه شرب الماء المالح لإرواء العطش؛ كلما شربت أكثر، ازددت عطشًا. الإنسان بدون اتصال بالله، كلما سعى وراء الملذات المادية أكثر، شعر بشبع ورضا حقيقي أقل، ويبحث دائمًا عن شيء جديد لملء الفراغ الداخلي. في المقابل، السعادة القائمة على الإيمان والاتصال بالله هي نبع صافٍ ينبع من داخل الإنسان ولا يجف بأي عامل خارجي. هذا النبع يمنح الحياة استقرارًا ومعنى وهدفًا، ويحمي الإنسان من تقلبات الحياة الدنيا. لذا، يمكن القول بحزم أن السعادة الحقيقية والدائمة، بدون ذكر وحضور الرب في قلب الإنسان وحياته، لن تكون ممكنة، وكل ما عدا ذلك هو مجرد سراب يبعد الإنسان عن طريق السعادة الحقيقية. وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بأفضل طريقة ممكنة، وهو دليل الإنسان للوصول إلى هذا السلام والسعادة الأبدية.
يُحكى أنه في قديم الزمان، عاش تاجر ثري جدًا في بغداد يمتلك كل ما يشتهيه: قصرًا فخمًا، وعبيدًا كثيرين، وشتى أنواع الملذات. لكنه كان دائمًا مضطرب القلب وقلق الروح، وكانت سعادته سريعة الزوال. كلما تسلل الحزن إلى قلبه، كان يشرع في رحلة بحثًا عن ملذات جديدة، لكنه كان يشعر دائمًا بفراغ داخلي. في أحد الأيام، خلال رحلاته، وصل إلى درويش عجوز كان يجلس تحت شجرة، بقلب هادئ ووجه بشوش، يبتسم لكل عابر سبيل. سأله التاجر: «أيها الشيخ الحكيم، ما هذا السلام الذي تملكه ولا أملكه أنا مع كل هذه الثروة؟» ابتسم الدرويش وقال: «أيها الشاب، لقد علقت قلبك بسراب الدنيا وتظن أن ماء الحياة فيها. أما أنا فقد أسلمت قلبي لخالق الوجود، فمنه ينبع ينبوع الطمأنينة. سعادتك تأتي من الخارج وتزول مع كل نسمة، أما سعادتي فتنبع من الداخل، لأني أعلم أن كل ما هو موجود وغير موجود هو منه، وإليه مرجع الجميع. فكيف يكون قلبي مضطربًا؟» بعد سماع هذا الكلام، غرق التاجر في التفكير وأدرك أن السعادة الحقيقية تكمن في الاتصال بالمصدر اللانهائي، وليس في السعي وراء ملذات الدنيا الفانية.