يمكن أن يكون حب الإنسان مرآة تعكس عظمة الخالق وجسرًا للحب الإلهي، بشرط أن يتجاوز الحدود المادية ولا يحل محل حب الله.
الحب جوهر إلهي أودعه الله في فطرة الإنسان؛ ولذلك، فإن دراسة العلاقة بين الحب البشري (حب الإنسان لإنسان آخر) والحب الإلهي (حب الله) في القرآن الكريم تكشف عن حقائق عميقة. لا يذكر القرآن صراحة أن حب الإنسان لإنسان آخر هو 'مقدمة ضرورية' لحب الله، ولكنه يشير بوضوح إلى أن الحب للخلق، إذا كان مصحوبًا بالبصيرة والوعي، يمكن أن يكون 'مرآة' تعكس عظمة الخالق وكماله، وجسرًا للوصول إلى الحب الإلهي اللامحدود. هذا المنظور يرى الحب البشري ليس غاية نهائية، بل مسارًا محتملاً للوصول إلى حقيقة أسمى. يشير القرآن الكريم في آيات عديدة إلى أهمية ومكانة الحب والمودة في حياة البشر. ومن أجمل مظاهر هذه المودة هو الحب بين الأزواج، الذي تناولته سورة الروم، الآية 21: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"؛ أي "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة؛ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون." تُظهر هذه الآية أن المودة والرحمة بين البشر هي من آيات الله وعلاماته. عندما يتأمل الإنسان في هذا الحب العميق والطمأنينة الناتجة عنه، يدرك أن هذه النعمة العظيمة هي من رب رحيم غفور، وهو بذاته مصدر وأصل كل حب ومودة. في الواقع، يمكن لهذا الحب البشري أن يكون بوابة لفهم وجود الله 'الودود'، كما جاء في سورة البروج، الآية 14: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ"؛ أي "وهو الغفور الودود." تستخدم هذه الآية صفة 'الودود' (كثير الحب) لله، مما يشير إلى أن الله نفسه هو المصدر والتجلي الرئيسي للحب. لذا، إذا لم يحصر الإنسان حبه للآخر في إطار الملذات الدنيوية فحسب، بل نظر إليه بعين البصيرة والتأمل، يمكنه أن يبني من هذه التجربة الأرضية درجًا يصعد به إلى مراتب أعلى من الحب الإلهي. وبهذه الطريقة، فإن حب الإنسان يقود الإنسان نحو الله؛ لأن كل كمال وجمال يلاحظ في المخلوقات هو شعاع وانعكاس لكمال وجمال الله اللانهائي. فكما أننا عندما ننظر إلى عمل فني جميل، ندرك عظمة خالقه، فعندما نختبر الحب واللطف في العلاقات الإنسانية، يمكننا أن نعود إلى مصدره الأصلي، وهو الله. ومع ذلك، يحذر القرآن بشدة من أن يُعيق حب المخلوقات الإنسان عن حب الخالق، أو أن يوضع في مرتبة أعلى من حب الله. في سورة التوبة، الآية 24، يقول الله تعالى بوضوح: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"؛ أي "قل: إن كان آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اكتسبتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فانتظروا حتى يأتي الله بأمره؛ والله لا يهدي القوم الفاسقين." تُظهر هذه الآية بوضوح أن حب الله ورسوله يجب أن يسبق كل الارتباطات الدنيوية والبشرية. إذا شغل الحب الأرضي الإنسان وجعله ينسى الله وواجباته، فإنه لن يكون مقدمة للحب الإلهي فحسب، بل يمكن أن يُعتبر عائقًا كبيرًا في هذا المسار. بمعنى آخر، يمكن أن يكون حب الإنسان 'وعاءً' لفهم الحب الإلهي، شريطة أن ينفتح هذا الوعاء نحو المصدر الأصلي، الرب. هذا الوعاء يمكن أن يُهيّئ قلب الإنسان لاستقبال وفهم عظمة الله ورحمته اللامتناهية. فعندما يختبر الإنسان التضحية، والتفاني، والتسامح، والعطاء من خلال حب الآخر، فإنه يتذوق هذه الصفات الإلهية على نطاق صغير، وهذه التجربة يمكن أن تدفعه نحو الكمال المطلق لهذه الصفات في وجود الله. وبالتالي، فإن الحب البشري هو فرصة لممارسة التعاطف والرحمة والتضحية، وهي كلها من خصائص المؤمن الحقيقي ومن سبل التقرب إلى الذات الإلهية. لهذا السبب، أطلق العديد من الصوفية والعرفاء على الحب الأرضي اسم 'الحب المجازي' واعتبروه جسرًا للوصول إلى 'الحب الحقيقي' (الحب الإلهي)، بشرط ألا يصل هذا الحب المجازي إلى طريق مسدود وأن يوجه نحو مصدر الحب اللامتناهي، وهو الله. في النهاية، تحدد جودة الحب البشري واتجاهه ما إذا كان هذا الحب سيكون مقدمة للحب الإلهي أم سيتحول إلى عائق في هذا الطريق.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك ملك وقع في حب فتاة اشتهر جمالها في المدينة كلها. أصبح مفتونًا بها تمامًا، لا يأكل ولا ينام إلا وذكراها في باله ليل نهار. ذات يوم، جاء عارف حكيم إلى البلاط ولاحظ حالة الملك المضطربة. سأله: "يا ملك، ما مصدر كل هذا الشوق والعشق؟" تنهد الملك بعمق وتحدث عن جمال معشوقته وكمالها. ابتسم العارف وقال: "يا ملك! إذا كان كل هذا الهيام منك لجمال فانٍ لمخلوق موجود اليوم وقد يزول غدًا، فماذا لو أنك عهدت بهذا القلب المحب إلى خالق هذا الجمال الفريد؟ إنه هو الذي خلق جمال العالم ومصدر كل الكمالات. هذا الحب الذي تكنه لمخلوق يمكن أن يكون جسرًا لتصل إلى حب الخالق اللامتناهي، إذا نظرت بعمق ورأيت أن كل جمال وكل كمال منه وإليه يعود." تأثر الملك بكلمات العارف الحكيم بعمق. أدرك أن الحب الأرضي، وإن كان حلوًا، فإنه عابر وليس الوجهة النهائية. ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، وجه الملك قلبه بشكل أعمق نحو الله، وأصبح حبه للمخلوق طريقًا للوصول إلى حب خالق الوجود اللامحدود.