نعم، الاستغناء الحقيقي عن الخلق، بمعنى الاعتماد القلبي الكامل على الله، هو طريق أساسي للتقرب إليه. هذا الاستغناء يحرر الإنسان من التبعيات الدنيوية ويوجهه نحو الغنى الإلهي.
نعم، إن الاستغناء عن الخلق، بمعناه الحقيقي والعميق، هو أحد أهم وأعمق الطرق للوصول إلى الله سبحانه وتعالى. هذا المسار ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو العمود الفقري لحياة إيمانية توحيدية. ولكن يجب أن نفهم أولاً ما هو المقصود بـ "الاستغناء عن الخلق". هذا المفهوم لا يعني الانعزال، أو ترك مخالطة الناس، أو عدم الاستفادة من الوسائل والإمكانيات الدنيوية. بل هو حالة قلبية وروحية يدرك فيها الإنسان أن الله وحده هو المصدر الحقيقي للقوة، والرزق، والعون، وتلبية كل احتياجاته، ولا يعلق قلبه بغيره. هذا هو جوهر "التوكل الكامل" على الله، الذي أشارت إليه آيات عديدة في القرآن الكريم كصفة بارزة للمؤمنين الصادقين. القرآن الكريم يوضح صراحة أن جميع المخلوقات، بما في ذلك البشر، في ذاتها فقيرة ومحتاجة، في حين أن الله وحده هو الغني المطلق والمتفرد. تتجلى هذه الحقيقة بجمال في سورة فاطر، الآية 15: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله؛ والله هو الغني الحميد). هذه الآية ترسي الأساس لمفهوم الاستغناء عن الخلق. عندما يصل الإنسان إلى هذا الفهم العميق بأن كل الوجود، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، معتمد ومحتاج لخالقه، وأن المصدر الوحيد للقوة والرحمة هو الذات الإلهية، عندئذ يتجرد قلبه من التبعيات المادية وغير المادية للمخلوقات، ويختبر الحرية الحقيقية. إنه بمثابة اكتشاف حقيقة جوهرية تغير نظرة الإنسان للحياة، للظروف، وحتى للمشاكل. هذا الاستغناء الحقيقي عن الخلق هو رحلة داخلية؛ رحلة يتعلم فيها الفرد ألا يربط آماله بأيدي الآخرين، ولا بالمال والجاه، ولا بقوة ومكانة الناس. بل تكون كل آماله واعتماده على الله وحده. هذا التوكل الحقيقي يحرر الإنسان من الهموم والقلق والمخاوف الناجمة عن الاعتماد على غير الله. على سبيل المثال، من يدرك أن رزقه بيد الله، الرزاق الحقيقي، لا يخاف الفقر أو العوز الشديد ولا يسعى وراء الدنيا بشراهة؛ ومن يعلم أن العزة والذلة بيد الله وحده، لا يذل نفسه ليحصل على مكانة دنيوية ولا يلجأ إلى التملق؛ ومن يعلم أن القوة المطلقة في يد الله، لا يخشى ظلم أي قوي ولا يرضخ لأي طاغية. هذه الحرية الداخلية، النابعة من التوكل العميق على الله، هي أكبر خطوة نحو القرب الإلهي وتحقيق الطمأنينة الحقيقية. إنها تحرر الإنسان من عبودية التعلقات الدنيوية ومن عبودية العباد مثله. في سورة آل عمران، الآية 160، يؤكد القرآن بوضوح على هذه النقطة: "إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (إن ينصركم الله فلا غالب لكم؛ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؛ وعلى الله فليتوكل المؤمنون). هذه الآية تبين أن النصر والخذلان بيد الله وحده، وعليه وحده يجب التوكل. هذا المفهوم يشكل أساس الاستغناء عن عون المخلوقات واللجوء إلى المعين الحقيقي الوحيد. هذا الفهم يمنح الإنسان قوة الصمود أمام التحديات والشجاعة في مواجهة المصاعب، لأنه يعلم أن سنده هو قوة أزلية لا تقهر. علاوة على ذلك، فإن الاستغناء عن الخلق يدفع الإنسان إلى تركيز طاقته الروحية والفكرية على معرفة الله وعبادته وأداء واجباته، بدلاً من الانشغال بتوقعات الناس أو بالهموم المادية الدنيوية. عندما يتحرر القلب من قيود الدنيا والمخلوقات، ويتطهر من غبار التعلقات، يفتح مجالاً فيه لحضور وتجلي أسماء الله وصفاته. وهذا هو "القلب السليم" الذي تطهر من التعلقات الدنيوية والشرك الخفي، ليصبح مستعداً لتلقي الأنوار الإلهية. مثل هذا القلب، مع كل نبضة، يحيي ذكر الله ويدفع الإنسان نحو الكمال والقرب الإلهي. هذه العملية من تطهير القلب تمهد الطريق للإلهامات الإلهية والفهم الأعمق لحقائق الوجود. الاستغناء عن الخلق، بشكل ما، هو الوصول إلى حالة "الفناء في الله"؛ ليس بمعنى الفناء الوجودي، بل بمعنى فناء التبعيات والميول النفسية لغير الله. عندما يتخلى الإنسان عن كل ما سوى الله ولا يرى ولا يريد إلا هو، هناك تتجلى حقيقة التوحيد في كيانه. هذه المرحلة، التي هي ذروة السلوك العرفاني والعبودية الخالصة، تمنح الإنسان بصيرة عميقة وطمأنينة دائمة. في هذه الحالة، لا يطلب الإنسان شيئاً من الآخرين فحسب، بل يرى نفسه فقيراً محضاً أمام الله، ويدرك أن كل ما يملكه هو منه، لا من جهده الشخصي. هذا هو أوج الاستغناء عن الخلق والغنى بالله، حيث يتعايش مقام "الفقر الذاتي" مع "الغنى الرباني". يجب التأكيد على أن هذا الاستغناء لا يعني أبدًا اللامبالاة تجاه المجتمع، أو الامتناع عن العمل والسعي لكسب الرزق، أو إهمال المسؤوليات الاجتماعية. على العكس تمامًا، إن الشخص الذي استغنى عن الخلق وعلق قلبه بالله، يستطيع أن يخدم خلق الله بهدوء وصدق وإخلاص أكبر، لأن هدفه من الخدمة هو رضا الله، لا الحصول على منفعة أو شهرة أو تقدير من الناس. لم يعد يهتم بمكافأة الناس أو شكرهم، لأنه يطلب مكافأته الحقيقية من الله، وهو خير المجازين. هذا النوع من الخدمة أنقى وأكثر فاعلية، ويمثل مصداق "فعل الخير في سبيل الله" و"الإحسان" الذي شدد عليه القرآن الكريم. المؤمن المستغني عن الخلق يكون نشطًا في المجتمع ولكن بقلب متحرر من التعلقات وبهدف أسمى. ختامًا، يمكن القول إن الاستغناء عن الخلق فضيلة أخلاقية وروحية عظيمة تحرر الإنسان من عبودية الدنيا، والطمع، والاعتماد على المخلوقات، وتمنحه أجنحة التحليق نحو المعشوق. هذا التحرر لا يجلب السعادة والسكينة الدنيوية فحسب، ويحرره من عبء التوقعات غير المبررة، بل يفتح الطريق للوصول إلى أعلى درجات القرب الإلهي، والمعرفة الحقيقية بالرب، وتجربة غناه اللامتناهي. يتطلب هذا المسار تزكية النفس المستمرة، والتفكر والتدبر في الآيات الإلهية، والتوكل العميق والدائم على الذات الإلهية الفريدة. في الحقيقة، الاستغناء عن الخلق هو قمة الحاجة والعبودية للخالق، مما يربط الإنسان بمنبع كل الخيرات والكمالات.
ورد في كتاب "گلستان" لسعدي أن ملكًا سأل درويشًا: "ما الذي جعلك هادئ البال وخاليًا من الهموم هكذا؟" فأجاب الدرويش: "لأن لي قلبًا لم يتعلق بالدنيا ولا بأهلها. فكل ما أملكه، أعلم أنه من الله، وكل ما أفتقده، أعلم أنه من حكمته. ولو كان العالم مليئًا بالنعم وكلها في أيدي الناس، لما احتجت إليها؛ ولو فُقدت مني الدنيا بأسرها، لما اهتممت، لأني لم أطلب إلا هو." تأمل الملك في كلام الدرويش وأدرك أن الكنز الحقيقي يكمن في الاستغناء عن الخلق والتوكل على الخالق.