لا، الروحانية الحقيقية في القرآن تتجاوز المشاعر العابرة. إنها تقوم على ثبات الأعمال، واليقين القلبي، والتوكل على الله، حتى عندما تكون المشاعر الروحية أقل حدة.
إن فهم مفهوم الروحانية وكيف تتجلى في حياة المؤمن هو موضوع عميق وشائك في كثير من الأحيان. يفترض الكثير من الناس أن الروحانية تعني التجربة المستمرة لحالة من النشوة، أو الهدوء المطلق، أو الحضور الدائم للمشاعر الدافئة والعميقة في الاتصال بالله. ولكن هل يطلب القرآن الكريم هذا التوقع من المؤمنين؟ هل من الضروري أن نكون غارقين دائمًا في هذه المشاعر لنعتبر أنفسنا روحانيين؟ إجابة القرآن، بلطافة وحكمة، تشير إلى أن الروحانية الحقيقية تتجاوز التقلبات العاطفية وتتجذر في ثبات الأعمال، واليقين القلبي، والتوكل على الله. يعلمنا القرآن الكريم أن الإيمان (اليقين القلبي)، والأعمال الصالحة، والاستقامة على طريق الحق، هي الأركان الأساسية للحياة الروحية. فالمشاعر، وإن كانت جميلة وقيمة، يمكن أن تكون متغيرة. الإنسان كائن عاطفي، ومن الطبيعي أن يشعر أحيانًا بتقارب أعمق وحضور روحي، بينما ينشغل في أوقات أخرى بالروتين اليومي، أو التحديات، أو حتى فترة من الفتور الداخلي. يؤكد القرآن على الاستقامة والثبات؛ كما جاء في سورة هود، الآية 112: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (فاستقم كما أُمِرتَ أيها النبي، وليستقم مَن تاب معك من الكفار إلى الإسلام، ولا تتجاوزوا حدود الله في أمره ونهيه، إن الله بما تعملون بصير). هذه الآية تبين أن المطلوب من الله هو الثبات على طريق الحق وأداء الواجبات، بغض النظر عن الشعور في اللحظة الراهنة. الروحانية في المنظور القرآني، هي أكثر من مجرد شعور عابر؛ إنها أسلوب حياة ونهج دائم للوجود. ذكر الله يريح القلوب، ولكن هذا الارتياح لا يعني دائمًا إثارة عاطفية. ففي بعض الأحيان، يأتي الهدوء الداخلي من قبول القدر، والتوكل على الله في ذروة الصعاب، ومواصلة الأعمال الصالحة، حتى عندما تكون الدوافع العاطفية أقل. في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الذين صدَّقوا بالله ورسوله، وعملوا صالحًا، وتستقر قلوبهم بذكر الله وطاعته. ألا بذكر الله وحده تطمئن القلوب وتسكن؟). هذه الآية تشير إلى 'اطمئنان' القلب، وليس بالضرورة 'الإثارة' أو 'الشغف' الدائم. هذا الهدوء هو نتيجة اليقين القلبي بالله والتوكل عليه، حتى عندما تفرض صعوبات الحياة مشاعر سلبية على الإنسان. حياة الإنسان مليئة بالصعود والهبوط. هناك لحظات يكون فيها الإيمان قويًا والشعور بالتقرب من الله وفيرًا، وهناك لحظات يشعر فيها الإنسان بالبعد والضعف. المهم هو عدم اليأس خلال هذه 'فترات الفتور' وعدم التخلي عن محاولة الاتصال بالله. يدعونا القرآن إلى الصبر والاستعانة بالصلاة؛ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله، اطلبوا العون من الله في كل أموركم بالصبر على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى البلاء، وبالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على كل خير. إن الله مع الصابرين بعونه وتوفيقه). الصبر هنا يعني المقاومة في وجه المشاكل وعدم اليأس، ومواصلة الأعمال العبادية حتى في غياب المشاعر القوية. الصلاة، الذكر، تلاوة القرآن، وأداء الأعمال الصالحة، حتى لو لم تخلق شعورًا عميقًا في اللحظة الراهنة، فإنها تسقي بذور الروحانية في وجود الإنسان على المدى الطويل وتؤتي ثمارها تدريجيًا. هذه الأعمال هي أعمدة الاتصال بالله ولا ينبغي التخلي عنها بسبب التقلبات العاطفية. الهدف الأساسي للروحانية في الإسلام هو تحقيق رضا الله والقرب منه، وليس مجرد إرضاء المشاعر الشخصية. في بعض الأحيان، يكون الاختبار الحقيقي للإيمان هو الالتزام بالواجبات الدينية ومواصلة طريق العبودية حتى عندما لا يوجد شعور روحي قوي. هذا الثبات والاستقامة هو ما له قيمة حقيقية ويدل على عمق الإيمان. في الواقع، إن مجرد الاستمرار في الأعمال الصالحة، حتى في غياب تلك المشاعر الممتعة، يمكن أن يؤدي إلى تقوية الإيمان وعودة تلك المشاعر. الله يكافئ جهودنا وليس فقط مشاعرنا. لذلك، ليس من الضروري أن نختبر الروحانية دائمًا كشعور نشوان أو هدوء مطلق. المهم هو أن نكون ثابتين في الطريق الإلهي بأعمالنا وقلوبنا، وأن نعلم أن الله تعالى دائمًا على علم بجهودنا ونوايانا الصادقة ويعلم ما يدور في القلب أفضل من أي شخص آخر. وبالتالي، فإن الثبات في الأعمال والثقة في الحكمة الإلهية هو أساس الروحانية الحقيقية، وليس التوقع المستمر لحالة عاطفية معينة.
كان في قديم الزمان درويش يسعى باستمرار إلى التجارب الروحية النشوة والحالات الروحية السامية. كان يعتقد أن الطريق إلى الله لا يكون إلا من خلال الإثارات العميقة والعواطف التي لا تنتهي. وكلما غابت عنه هذه الحالات، كان يشعر باليأس ويهمل عبادته. رآه شيخ صوفي حكيم وابتسم وقال: "يا بني، هل تشرق الشمس كل صباح بنفس الشدة والحماس الذي تشرق به عند الظهيرة؟ لا، أحيانًا تأتي بلطف وأحيانًا ببريق ساطع. ولكن هل تتوقف عن الإشراق أبدًا؟ لا. سر النور يكمن في ثباته، لا في شدته اللحظية. وكذلك قلب الإنسان. أحيانًا يخفق بشوق، وأحيانًا بهدوء خفي. الروحانية الحقيقية ليست في النشوة الدائمة، بل في ثبات العمل وذكر الله، حتى عندما يبدو قلبك مظلمًا. فالجاني يسقي الشجر لينمو، لا لمجرد أن تزهر الأزهار لبرهة جميلة. السقي المستمر، وإن كان قليلاً، أكثر فعالية من طوفان ليوم واحد." استوعب الدرويش هذه الكلمات وفهم أن طريق الله هو طريق الاستقامة، وليس التوقع المستمر لشعور معين.