هل معرفة الله ممكنة؟ وإذا كانت كذلك، فإلى أي مدى؟

معرفة الله ممكنة، ولكن ليس بإحاطة ذاته، بل من خلال التأمل في آياته الكونية، وصفاته وأسمائه الحسنى، ووحيه. هذه المعرفة تؤدي إلى الإيمان والمحبة والخضوع القلبي، وتتعمق إلى ما لا نهاية.

إجابة القرآن

هل معرفة الله ممكنة؟ وإذا كانت كذلك، فإلى أي مدى؟

إن سؤال إمكانية معرفة الله، وإلى أي مدى، كان دائمًا أحد أعمق التساؤلات الإنسانية وأكثرها جوهرية على مر التاريخ. القرآن الكريم، بأسلوبه البليغ والدافئ، لا يؤكد فقط على إمكانية معرفة الله، بل يقدم طرقًا متعددة للوصول إلى هذا الفهم العميق، وفي الوقت نفسه يوضح حدود هذه المعرفة، لأن ذات الله اللامتناهية تتجاوز الإدراك البشري المحدود. في الواقع، معرفة الله ليست ممكنة فحسب، بل هي الغاية القصوى من الخلق والهدف الأساسي لحياة الإنسان، والقرآن يوضح مسارات متعددة للوصول إلى هذه المعرفة المقدسة. من أهم طرق معرفة الله في القرآن الكريم هي التأمل في "آيات الآفاق وفي الأنفس". فالله سبحانه وتعالى يدعو الإنسان في آيات عديدة إلى التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وحركة النجوم، والنظام الكوني، ودورات الحياة والموت، وخلق الكائنات الحية، وتعقيدات جسم الإنسان. فكل ذرة في الكون، من أصغر الذرات إلى المجرات اللامتناهية، ومن أدق التركيبات الخلوية إلى تعقيدات الدماغ البشري، كلها آيات تدل على علم وقدرة وحكمة وتدبير الخالق اللامتناهي. يقول الله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت: 53). هذه الآية توضح بجلاء أن الله سيرينا آياته في الآفاق المحيطة بنا وفي أعماق أنفسنا حتى تتجلى لهم الحقيقة. هذا التفكر في الخلق لا يؤدي فقط إلى معرفة القدرة الإلهية، بل يقود عظمة ونظام وجمال الخلق الإنسان نحو جمال وكمال الرب، فكلما تعمقنا في هذه الآيات، زاد إدراكنا لحضور خالق حكيم وقادر. الطريق الآخر لمعرفة الله هو التأمل في "أسمائه الحسنى وصفاته العليا". لقد عرّف الله نفسه بتسعة وتسعين اسمًا حسنًا، كل اسم منها يجسد جانبًا من كماله اللامتناهي؛ من "الرحمن" و"الرحيم" اللذين هما مظهر رحمته الواسعة، إلى "العليم" الذي يعبر عن علمه الذي لا نهاية له، و"الحكيم" الذي يدل على حكمته الفريدة، و"الخبير" الذي يشير إلى علمه بالظاهر والباطن، و"القدير" و"الجبار" اللذين يعرضان قدرته المطلقة. معرفة هذه الصفات لا تعطينا صورة أوضح عن الله فحسب، بل تؤثر أيضًا على سلوكنا وأخلاقنا. عندما نعلم أن الله "سميع" و"بصير"، نشعر أننا دائمًا تحت رعايته ومراقبته، وهذا الوعي يدعونا إلى التقوى والورع. معرفة هذه الصفات تساعدنا على بناء علاقة أعمق مع الله ونثق به ونتوكل عليه أكثر. كل اسم يفتح نافذة جديدة نحو المعرفة الإلهية، وكلما ازداد معرفتنا بهذه الصفات، تعمق فهمنا لله أكثر. تعتبر "الوحي والأنبياء" أيضًا أدوات لا مثيل لها لمعرفة الله. فالقرآن الكريم هو كلام الله المباشر الذي نزل بواسطة جبريل على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). يقدم هذا الكتاب السماوي نفسه كدليل كامل للبشرية، لا يتناول فقط معرفة الله وصفاته، بل يحدد أيضًا الطريق الصحيح للحياة، والأحكام الإلهية، والتعاليم الأخلاقية. كما أن الأنبياء عليهم السلام، من خلال حياتهم، قدموا أفضل نموذج عملي لمعرفة الله وطاعته. لقد كانوا تجليًا للصفات الإلهية في الفعل، ودعوا الناس إلى التوحيد والحياة الإلهية. دراسة القرآن وسيرة الأنبياء تساعدنا على فهم أعمق للإرادة الإلهية، وأهداف الخلق، وكيفية إقامة علاقة مع الخالق. ولكن يجب أن نجيب على سؤال "إلى أي مدى؟". فمعرفة الله في القرآن دائمًا ما تكون مصحوبة بالتأكيد على "التنزيه" (تنزيهه عن أي نقص أو مشابهة للمخلوقات). فالله سبحانه وتعالى "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (الشورى: 11). هذا يعني أن العقل البشري المحدود لا يمكنه أبدًا أن يدرك ذات الله اللامتناهية بالكامل أو أن يحيط به علمًا. فمعرفتنا بالله هي دائمًا من خلال آثاره وصفاته، وليس من خلال الإحاطة بذاته. هذا يشبه القدرة على إدراك آثار الشمس (الضوء، الحرارة) والوعي بوجودها، ولكن لا يمكننا النظر مباشرة إلى مركزها أو الإمساك بها. هذا التحديد ليس ضعفًا بشريًا، بل هو دليل على عظمة الله وتفرده. الهدف من معرفة الله هو الوصول إلى "معرفة الله" التي تؤدي إلى الإيمان، والخشية، والمحبة، والتوكل، والاستسلام، وليس الإحاطة بوجوده اللامتناهي. كلما تعمقت هذه المعرفة، زاد السلام الداخلي، والبصيرة الروحية، والهداية في طريق الحق. في الختام، يمكن القول إن معرفة الله هي رحلة لا نهاية لها، ومع كل خطوة فيها، يزداد نور المعرفة وتصبح الحياة أكثر ثراءً. هذه المعرفة تتحقق من خلال مراقبة الكون، والتأمل في الذات، والتعمق في كلام الله، واتباع هدي الأنبياء. إنها تؤدي إلى القرب من الله وحياة مليئة بالمعنى والهدف. هذه الرحلة هي مسار للنمو الروحي والأخلاقي للإنسان، الذي يقوده من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، وتمكنه من إدراك مكانه الحقيقي في الوجود وبناء حياته على أساس رضا الخالق. كلما تقدم الإنسان في هذا المسار، تعمق فهمه لله وأصبحت حياته أكثر معنى وهدوءًا.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن رجلاً حكيمًا سأل سعدي ذات يوم في شيراز: "كيف يمكن للمرء أن يعرف الله، وهو لا يُرى بالعين؟" فابتسم سعدي بلطف وقال: "يا صاحبي، هل مشيت يومًا في البساتين ورأيت الزهور والأشجار والطيور؟" قال الرجل: "نعم، رأيت عددًا لا يحصى." فقال سعدي: "ألا تشهد كل زهرة ونبتة بوجود بستاني حكيم وقادر، حتى لو لم تر البستاني بعينيك؟" أجاب الرجل: "بلى، هذا صحيح." تابع سعدي: "فانظر إلى هذا الكون اللامتناهي، إلى سمائه المليئة بالنجوم، إلى شمسه المشرقة وقماره المنير، إلى بحاره المتلاطمة وجباله الشامخة، وإلى آلاف الأنواع من الحيوانات والنباتات، وإلى النظام الدقيق والمذهل لكل منها. ألا تدل كل هذه النظام والجمال والعظمة على وجود خالق فريد، حتى لو كانت ذاته محتجبة عن الأنظار؟ فإذا ظهرت آثاره، لا يمكن إنكار وجوده. وما يجب معرفته هو أنه عظيم وفريد إلى درجة أن فهمنا المحدود لا يمكنه الإحاطة بذاته، ولكن معرفة صفاته وأفعاله تقربنا منه وتملأ قلوبنا بالحب والإيمان." استنار الرجل من كلام سعدي ورأى طريق المعرفة أوضح.

الأسئلة ذات الصلة