في الإسلام، التفاؤل والواقعية ليسا متناقضين؛ فالتفاؤل ينبع من الأمل في الرحمة الإلهية، بينما تؤكد الواقعية على قبول حقائق الحياة وضرورة الجهد. وهما متكاملان، يوجهاننا نحو حياة متوازنة وهادفة.
من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية الشاملة، فإن التفاؤل والواقعية ليسا متناقضين، بل هما وجهان لعملة واحدة، ضروريان ومكملان لبعضهما البعض من أجل حياة متوازنة وهادفة ومثمرة. يعلمنا الإسلام أن نكون دائمًا متفائلين برحمة الله وفضله وننظر إلى المستقبل بنظرة إيجابية، ولكن في الوقت نفسه، ألا نتجاهل حقائق الحياة وتحدياتها وضرورة بذل الجهد والتخطيط. هذا الانسجام بين التفاؤل والواقعية يشكل أساس حياة روحية وعملية صحية. التفاؤل من المنظور القرآني: الأمل في الرحمة الإلهية وحُسن الظن بالله يُنهى القرآن الكريم بشدة عن اليأس ويشجع العباد على الأمل في رحمة الله الواسعة. هذا الأمل هو جوهر التفاؤل في الإسلام. يقول الله تعالى في سورة الزمر، الآية 53: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»؛ أي: «قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم». هذه الآية ليست مجرد دعوة إلى التوبة والعودة، بل هي رسالة واضحة بضرورة التفاؤل وعدم اليأس من فضل الله وكرمه. حتى في أوج الذنب والخطأ، باب رحمة الله مفتوح، وهذا في حد ذاته سبب قوي للتفاؤل. التفاؤل في الإسلام متجذر في «حُسن الظن بالله»؛ أي الظن الحسن والإيجابي بأفعال الله وتدبيراته. يؤمن المؤمن الحقيقي بأن كل ما يأتي من الله، سواء كان ظاهره سارًا أم غير سار، مملوء بالحكمة والخير. هذه النظرة تساعد الفرد على الصبر أمام الصعوبات والشدائد، والنظر إلى المستقبل بروح متفائلة. يقول نبي الله يعقوب عليه السلام في سورة يوسف، الآية 87 لأبنائه: «يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»؛ أي: «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». هذا مثال صارخ على التفاؤل في أوج الشدة والفراق، وهو لا يؤدي أبدًا إلى اليأس. الواقعية في الإسلام: قبول الحقائق وضرورة السعي إلى جانب التفاؤل، يؤكد القرآن بشدة على الواقعية والفهم الصحيح للعالم والحياة. يذكرنا الإسلام بأن الدنيا دار ممر، ويجب ألا ننخدع بزينتها ونغفل عنها. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 155: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»؛ أي: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين». هذه الآية توضح جليًا أن البلاءات والامتحانات جزء لا يتجزأ من الحياة الدنيا، ويجب على الإنسان الواقعي أن يقبل هذه الحقيقة. الواقعية في الإسلام تعني عدم الغفلة عن الحقائق وضرورة السعي والتدبير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»، وهذا الحديث الشريف يدل على أن التوكل على الله (وهو في حد ذاته نوع من التفاؤل والأمل في عون الله) لا ينبغي أبدًا أن يمنع من بذل الجهد والتخطيط والأخذ بالأسباب الظاهرة. كما يشير القرآن في مواضع متعددة إلى أهمية الإعداد والسعي. نقرأ في سورة الأنفال، الآية 60: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...»؛ أي: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم». تؤكد هذه الآية صراحة على ضرورة الاستعداد والقوة والتخطيط، وهو أمر يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالواقعية. فتجاهل العدو وعدم الاستعداد ليس تفاؤلًا بل غفلة، ومن المؤكد أنه سيؤدي إلى عواقب وخيمة. التوازن والتكامل: التفاؤل الواقعي يعلمنا الإسلام «التفاؤل الواقعي». هذا يعني أننا يجب أن نأمل في النتائج الجيدة للأمور، ولكن في الوقت نفسه، أن نسلك الطريق المؤدي إلى تلك النتيجة من خلال الجهد والتخطيط الواقعي. يساعد هذا النهج المؤمن على: 1. الثبات في مواجهة التحديات: عندما نقبل بواقعية أن الحياة تتضمن صعوبات (ولنبلونكم بشيء من الخوف)، فإن التفاؤل الداخلي برحمة الله (لا تقنطوا من رحمة الله) يمنحنا القدرة على التغلب عليها بالصبر (وبشر الصابرين) والسعي المتواصل. 2. تجنب الإفراط والتفريط: ليس التفاؤل الأعمى الذي يمنع الفرد من بذل الجهد مذمومًا فحسب، بل إن الواقعية التي تؤدي إلى اليأس المطلق وترك العمل لا مكان لها في الإسلام. يدعو الإسلام إلى الاعتدال. 3. الشكر والامتنان: يرى الشخص الواقعي النعم الموجودة ويشكر عليها، بينما يساعده التفاؤل على فهم مكانة الحكمة واللطف الإلهي في كل الظروف، حتى في الشدائد. 4. التخطيط والعمل العملي: الإيمان بعون الله لا يعني أبدًا التوقف عن العمل والسعي. بل إن التوكل الحقيقي يعني أداء جميع الواجبات ثم تفويض النتيجة إلى الله. وهذا هو المزيج الذكي بين التفاؤل والواقعية. في الختام، يمكن القول إن التفاؤل والواقعية في الإسلام ليسا متناقضين، بل هما مكملان لبعضهما البعض. التفاؤل بدون واقعية يمكن أن يؤدي إلى الخيال والكسل، والواقعية بدون تفاؤل قد تؤدي إلى اليأس والإحباط. يعلمنا الإسلام أن ننظر إلى العالم بعيون مفتوحة، وأن نقبل حقائقه، ولكن لا نغفل أبدًا عن نور الأمل في رحمة الله اللامحدودة. هذا المزيج يمهد الطريق للسعادة في الدنيا والآخرة، ويمنح الإنسان قوة هائلة لمواجهة جميع جوانب الحياة.
في كتاب گلستان سعدي، يُروى أنه في إحدى مدن فارس، كان يعيش رجل فقير ومتصوف، اشتهر بشكره وقناعته. على الرغم من الفقر الشديد، كان دائمًا يقابل الناس بابتسامة ووجه بشوش، ويقول: «الله هو الرزاق، ولا يمكن اليأس من فضله.» ذات يوم، قال له أحد جيرانه الأثرياء الذي كان يلومه على هذا التفاؤل المفرط: «يا درويش، أنت دائمًا تتحدث عن رزق الله، ولكن انظر كيف تقضي أيامك في الفقر والجوع. هل هذه واقعية أن تنتظر مائدة من السماء بينما يداك خاليتان من العمل؟» ابتسم الدرويش بتواضع وقال: «يا صديقي، تفاؤلي بفضل الله لم يمنعني أبدًا من السعي ورؤية الواقع. أعلم أن الله يوصل الرزق عبر الأسباب، ويجب على المرء أن يسعى ليعثر عليه. ولكن في الوقت نفسه، حتى عندما لا تتوفر الأسباب الظاهرة، لا أُسلّم قلبي لليأس؛ لأني أعلم أن كنز رحمته الخفي يكمن في مكان لا أراه. التفاؤل يمنحني القوة للأمل في الشدائد، والواقعية تخبرني أن عليّ أن أخطو خطوة لأجد ذلك الأمل.» في تلك اللحظة بالذات، جاء أحد تلاميذ الدرويش ومعه وعاء طعام وهدية له. شارك الدرويش الطعام مع جاره وقال: «أرأيت يا صديقي؟ رحمة الله تأتي أحيانًا من حيث لا نحتسب. التفاؤل يمنح القلب السكينة، والواقعية ترشد الطريق. كلاهما ضروريان؛ أحدهما يبقي الروح حية، والآخر يجعل الخطوات ثابتة.» أدرك الجار الثري، عندما رأى هذا المشهد، حكمة الدرويش وفهم أن التفاؤل بدون جهد هو حلم، والجهد بدون تفاؤل هو عناء لا فائدة منه.